هيام الجاسم / في الصميم / التثاقف بين المجتمعات... تصدير للقناعات!

1 يناير 1970 06:26 ص
التثاقف هو عملية التغيير من خلال الاتصال الثقافي المتكامل، فذلك الاتصال بين الثقافتين يؤدي إلى زيادة أوجه التشابه بينهما في معظم الميادين الثقافية ذلك هو التعريف الذي أدلت به الدكتورة دلال ملحس في كتابها التغير الاجتماعي والثقافي، إذا نعني به التبادل الثقافي الذي تقوم به الدول في ما بينها متمثلة بملاحقها الثقافية التابعة لسفاراتها في بلاد العالم، ومن الممكن أن نعتبره تثاقفاً أيضاً إن وقع من بعض مجموعات أو أفراد تخترق مجتمعات متجاورة أو غير متجاورة لتغزوها في أنماط حياتها وفي مجالاتها كافة، بدءا بالمعتقد وانتهاء بأنماط أبسط أمور الحياة.

الذي يعنينا في الأمر أن أي تغير اجتماعي في أي مجتمع يسبقه تغير ثقافي قد طرأ على المجتمع وتقبله الناس بعفوية وتلقائية، إما بطريقة التثاقف المقصودة والمتعمدة من خلال التبادل الثقافي الذي تقيمه الدول في ما بينها وإما من خلال اختراق مجموعات من الناس تصدّر قناعاتها لنا ونحن خالو الذهن من قناعات مضادة لها فنتقبلها قبولاً ونتشربها تجاوباً دون تمحيص لها... كثيراً ما نحتج على تصدير غيرنا لقناعاته لنا، ونسمع احتجاجات كثيرة هنا وهناك ضد تصدير ثورة بلد ما إلى بلادنا وتصدير الفكر الإرهابي إلى شبابنا...

آمل حقيقة أن نكيل الأمور بمكيال واحد ثابت وبمصداقية عالية، فإذا رفضنا مبدأ التصدير لأي قناعات لديارنا سواء بالتثاقف أو بغيره يجدر بنا ونفترض في المحتج الرافض أن يستمر في رفضه لأي نوع من أنواع التصدير، فلا نقبل أن يكون رفضنا للتثاقف وفق كيل المكيالين دون مصداقية فنرفضها نبذاً وبغضاً وكرهاً لأنها لا توافق قناعاتنا ولا معتقدنا ثم نرحب ونمسهل لفكرة التصدير إذا كانت تلك الأفكار المعلّبة الجاهزة موافقة لما نحب ونرضى بل ونهوى.

هذه المعيارية الفاشلة منبوذة عند العقلاء والخبراء المتجردين تماماً عند تقييم تغيرالمجتمعات وحراكها، ولا يمكن للعاقل اللبيب أن يتقبل قلب الأمور في هكذا قضايا خطيرة على البلاد والعباد... فإما أن نرفض جملة وتفصيلاً مبدأ التصدير ونقفل عليه ونكون ممتنعين دولاً وأفراداً عن قبول أي تصدير بالتثاقف إلا بتقنين راشد من السلطات العليا في البلد، وإما أن نقبل ذلك المبدأ جملة وتفصيلاً حتى لو كان من خصم لنا.

الواقع مؤلم في كثير من بلاد العالم ونحن مشمولون معها، نفتح الأبواب على مصراعيها لكل ما يعزز أي فكر مغترب على مجتمعنا بإقامة عرض فلوكلوري مثلاً أو مسرحية أو أدب شعري أو حتى معرض تسوقي، و نرفض ونصرخ بتصريحات وكتابات نحذر بها من تصدير فكر غيرنا إلينا ثم من جهة أخرى نهلل ونرحب بضيف أو وفد يحمل ضياعاً فكرياً لهوية بلادنا، ثم وبعد أيام وأسابيع نتوجه بتهجماتنا ضد من يصدر فكره لنا لأنه لا يوافقنا ولا نؤمن بما يؤمن به ونعتبره خطرا على بلادنا. نحن بين طرفين أساسيين في القبول والرفض، مبدأ التصدير والتثاقف من جانب والأمر الثاني ماهية ما نقبله وما نرفضه مما يصدرونه لنا.

إن كنا ممن يقبل التصدير والتثاقف، وأنا لا أفرق بينهما، فإننا ما ينبغي لنا إذا أن نحتج على من يشتغل على تصدير ثورته أو علمانيته أو مذهبيته أو حتى إعلامه السفساف إلينا، فكلنا يدرك تمام الإدراك أن الفكر يمكننا تصديره حتى من خلال وجبة شبس وقميص موضة يباع في معرض تسويقي عندنا في بلادنا،

الدول المصدرة لثقافاتها ليست غبية إلى هذه الدرجة بأن تعرض بضاعتها دون أن تشمل معها عرضاً لفكرها ومذهبها وثقافتها.

ألا ليت قومي يعلمون أن التسويق للبضائع المادية يسوقون معه بضاعتهم الفكرية من خلال لهجاتهم ولباسهم وطبائع تعاملاتهم في العرض والبيع للبضاعة.

أنا لا أدري حقيقة هل المسؤولون في بلادي واعون ومدركون لذلك الاقتران اللصيق بين الترويج للبضائع المصحوبة بالتسويق للفكر والثقافة؟ لو كان شعبي في بلادي أضمن له فكراً ممتلئاً بالثقافة الصحيحة والوعي الفكري، لو كان شعبي يكفل لي عدم تأثره الخفي بثقافات الغير، لاعتبرت ذلك التبادل نعمة لتنمية أواصر العلاقة التجارية ولتحسين أوضاع العلاقات الديبلوماسية، ولكني لا أملك ضمانة في يدي تطمئنني أن الناس في بلادي تملك القدرة على التجرد والموضوعية والفصل بين التثاقف الخطر وبين تبضع وشراء بضاعة أحقق من ورائها لذة الشراء ومتعة التسوق!

عزيزي القارئ، التثاقف شيء جميل وأسلوب رائع يخدم الدول والمجتمعات إذا استثمرناه ووظفناه توظيفاً لا يخدش بهوية البلد ولا عاداته ولا قيمه ودينه، التثاقف وسيلة راقية في ديبلوماسيتها إذا استثمرناه بأساليب منطقية متوافقة مع خط البلد وسياسته ودستوره ودينه. قد يتبادر لذهن القارئ ومن الذي يحدد المقبول والمرفوض من هذا التثاقف؟ بلا شك هم قادة الدولة الملتزمون بحفظ سياسة البلد فكرياً واجتماعياً واقتصادياً، تلك العناصرالثلاثة مرتبطة ببعضها البعض أشد الارتباط في حركة المجتمعات سلباً وإيجاباً.

لذا فنحن ومع أننا لنا الخيار في أن نقبل أو أن نرفض إلا أننا ينبغي أن نضع في اعتبارنا أننا لا نستطيع أن نعيش بمعزل عن دول العالم من حولنا حكومات ومجموعات وأفراداً...

وما يبدر من أي جهة من محاولات تصديرية لا محالة ستترك أثرا في مجتمعنا، ولكن أن تترك أثراً محاصراً محدوداً تحت مرأى ومسمع ووعي القائمين على البلد خير من أن نترك الحبل على قاربه ويعيث من يعيث في عقول الناس ويتلاعب بقناعاتهم، وما يجرؤ من يجرؤ على تصدير ثوراته ومذهبياته وأفكاره وقناعاته لنا إلا إذا كانت عقولنا خواء في خواء!

أزيدك علماً عزيزي القارئ فإن الناس بطبيعتهم يسهل عليهم الإيمان بفكرة مقتبسة مسافرة من ديار الغير لنا، لهي أكبر سهولة عندهم من أن يجتهدوا في توليد قناعات مغتربة من داخل ديارهم... لذا كان التثاقف الخارجي أكثر خطراً من التثاقف المحلي وعليك الحسبة في ترقيم معاني الخطورة مجتمعياً!





هيام الجاسم

كاتبة كويتية