أماكن / الطريق إلى الذاكرة... (2 من 2)
1 يناير 1970
02:15 م
| جمال الغيطاني |
... تتوالى التداعيات وأنا أخطو باتجاه المدخل المؤدي الى صميم الدرب الأحمر، انني أمشي في نفس الطريق الذي كان يعبره السلاطين والأمراء المتجهين على رأس التجاريد العسكرية قاصدين الخروج للجهاد، انه بداية الشارع الأعظم الذي ينتهي عند باب الفتوح، بعد أن أصبحت القلعة مركزا للحكم بعد انهيار الدولة الفاطمية، هآنذا أقترب من مدخل الطريق الذي لا يبدو واضحا لمن يعبر، لا بوابة ضخمة ولا معلم غير عادي، مدخل عادي، ولولا بقايا القصر الأميري الى يسار الداخل لما بدا شيء يلفت النظر، لنلحظ هنا أن الطريق الأعظم يمضي من الجنوب الى الشمال، نفس مسار النيل، دائما ثمة حوار مع النهر مع تهيبه، واحترامه، هذا النهر الذي لم تهدر كرامته الا في العقود الأخيرة بعد أن أمن المصريون أخطاره بفضل السد العالي، كان من المفروض اتخاذ اجراءات تكميلية للسد لتفادي آثاره الجانبية، وأهمها فقدان هيبة النهر، تجرأ الناس على الأراضي الزراعية فالتهمها البناء بعد أن كانت تغمرها المياه وتهدد كل من يقيم بها، وألقى القوم مخالفات المصانع في النهر المقدس، كذلك مياه الصرف الصحي، وتضعضع المجتمع بعد زوال خطر الفيضان الذي كان يقوي لحمة وسدا المجتمع، وقت الخطر يقف المسلم الى جانب المسيحي كتفا بكتف لدفع خطر الفيضان الذي سيغمر الجميع، بعد زوال الخطر زال الشعور بالتماسك فظهر الشقاق، في العاصمة أظهر الأثرياء الجدد أنانيتهم، فارتفعوا بالأبراج على ضفتي النيل مباشرة، على الرغم من أن القانون المكتوب يقضي بالتدرج في البنيان سواء على النهر أو البحر، الفساد الاداري تخطى هذا القانون أمام سطوة المال، وهكذا تحول النهر الى نفق مائي في العاصمة، وتم اغتيال البحر في الاسكندرية بطريق سريع للسيارات، والغريب أننا نتباهى بهذا الطريق، وما يسمى كوبري ستانلي الذي دمر أحد أجمل شواطئ الثغر، أصبح الكوبري المنقول عبر قصر المنتزه معلما يردد التلفزيون صورته من منطلق المباهاة، وكان المفروض محاسبة المسؤولين عن ارتفاع الأبراج على البحر، وتوسيع هذا الطريق.
لكن لماذا أشغل نفسي بالاسكندرية والنهر، فلأنتبه، أنني موشك على ولوج الدرب الأحمر، انه طريق الراكب والاحتفالات وكذلك الندوات. كان موكب السلطان في العصر المملوكي أو الوالي العثماني ينزل من القلعة فيسلك هذا الطريق المؤدي الى ما يعرف الآن بسوق السلاح والذي يليه درب التبانة «من التبن وهو علف الخيول»، ويفضي هذا الى باب زويلة أو بوابة المتولي، البوابة الجنوبية للقاهرة، التي لاتزال على نفس الهيئة التي شيدها بها الوزير بدر الجمالي الأرمني الأصل، تعلوها مئذنة المؤيد شيخ، اضافة في العصر المملوكي.
الطريق الآخر يمر عند شارع الصليبة، الذي يقع عند بدايته الآن واحد من أصعب السجون حالا، سجن الخليفة المخصص لتوزيع المحكوم عليهم الى السجون التي سيقضون فيها مدد الأحكام، أي أنه مقر موقت، مكان للعبور، سجن نقالي مثل مقاهي الطرق ومطاعم النواصي، حيث علاقات عابرة جدا يتسم معظمها بالبدائية والعدوانية، عندما أبدأ تجوالي الصباحي أرى العائلات تقف منتظرة، متطلعة، قد يجري لقاء سريع هنا، وقد يجري توصيل مؤونة أو ملابس أو طعام.
ينحدر الشارع باتجاه ابن طولون، يمر أمام سبيل قايتباي وخانقاه ومسجد الأمير شيخون، وسبيل أم عباس.. كانت المواكب تتجه الى باب زويلة عبر شارع الصليبة، غير أنني أفضل الدخول الى الدرب الأحمر من سوق السلاح، نلاحظ أن السوق مخصصة للسلاح، أي ما يلزم السلطة الحاكمة، يليه درب التبانة، حيث التبن الخاص بالخيول، والخيول كانت القوة الضاربة في الجيش المملوكي، وتوازي المدرعات الآن، انها الأسواق الضرورية للسلطة الحاكمة.
الى يساري نرى أطلال قصر قديم، لم يتبق منه الا أطلال، لكن يمكننا تمييز الرنك، أي شعار الأمير صاحب العفو أعلى البوابة، الرنك دائري الشكل، نرى سيفا داخل الدائرة، انه الأمير منجك السلحدار، المسؤول عن التسليح وخزائن السلاح، وهذا منصب جليل القدر، عظيم الشأن، لذلك شيد الأمير منجك قصره بحيث يمكنه رؤية القلعة مقر الحكم، وذروة الهرم السلطوي، التدرج المعماري يوازي التدرج الوظيفي. كثيرا ما أتأمل بعض مقابر الدولة القديمة، مرقد الفرعون يليه مرقد الوزراء ثم كبار رجال الدولة، وأخيرا الخدم ومن يشكلون أسفل السلم الاجتماعي، نفس التقسيم الدينوي في المراقد الآخروية.
لكن... آه لو يعلم بناة القصور نهاياتها، كلما مررت في الحلمية أمام قصر أصبح مركزا للشرطة، أو مدرسة، أو مقرا لحزب، أو مكتبا للصحة، أو خرابة، وما أكثر الخرابات في القاهرة القديمة، كلما مررت بأحد هذه القصور وماآلت اليه، أردد هذه العبارة «آه لو يعلم بناة القصور نهاياتها»، غير أن ظهور مئذنة وقبة مدرسة الأمير الجاي اليوسفي «بضم الألف» يستنفر انتباهي، فهذه عمارة جالبة للسكنية، وبمجرد ظهورها يبدأ ترتيل سورة الرحمن داخلي، فلم أعرف بناءً تتحقق فيه تلك القدرة على التوازن مثل مدرسة الجاي اليوسفي.