| ثريا البقصمي |
لم تكن محطة قطار مدينة بودابست الهنغارية تحمل مواصفات المحطة العصرية، فقد صدمتني باتقارها لعربات نقل الأمتعة، أو العتالين أو كما نسميهم «الحماميل»، ولأني مسكونة بروح المغامرة فقد قبلت دعوة المشاركة في ملتقى فني يقام في مدينة «خوست» الأوكرانية، والناس هناك لا أعرفهم ومدينتهم في «قلعة وادرين»، ولكي أصل إليها كان يجب أن أسافر إلى تركيا ومنها إلى هنغاريا وبعدين أركب قطاراً يحملني إلى المجهول.
لقد استغثت بخلق الله ليساعدوني في حمل أمتعتي وشراء تذكرة وركوب القاطرة، وكان القلق ينهشني طوال الرحلة التي امتدت لساعات طوال خوفاً من أن أكون قد ركبت القطار الخطأ المتجه لرومانيا أو سلوفاكيا أو النمسا أو بولندا، هذه الدول كلها تحيط بالحدود الهنغارية.
وتنفست الصعداء عندما وصلت لمدينة «شوب» الحدودية، وسمعت الناس يتحدثون باللغة الروسية، فعرفت عندها أنني في أوكرانيا، ولكن ضابط الجمارك لم يعجبه شكلي وقرر أن يزرعني لمدة ساعة كاملة وهو يتأمل جواز سفري، وكان الجواز يتنقل من مكتب إلى آخر وأنا منهكة يقتلني تعب الانتظار، حتى سمعته يحدث زميلة قائلاً: «أنظري إلى صورتها في
الجواز كم تبدو شابة وبصحة جيدة، بينما في الواقع تبدو أكبر سنا ً ومتعبة».
وفي الحال ابتسمت بخبث قائلة:- يا حضرة الضابط لقد ازددت عمرا ً وشخت بسبب طول الانتظار.
ختم جوازي في الحال ووجهه مصفوع بالدهشة، ثم تسلمتني إمرأة جمركية وزميلها طلـّعوا مصارين حقائبي، أبدوا احتجاجاً لكمية الملابس والألوان وأدوات الرسم، ثم بعثروا أدويتي وقرروا تذوق قطع من الشكولاتة تحوي على بعض الفيتامينات، أعجبتهم بشدة صادروا نصفها، وبعد حفلة البهذلة خرجت من الجمارك لأجد جمهورا عريضا طويل ينتظرني وتوقعت أن يكون بينهم « ساشا» وهو الشخص المخول باستقبالي، لكني إكتشفت أن الجمهور عبارة عن سائقي تاكسي صيادي زبائن، وخاصة أن مدينة «خوست» تبعد ثلاث ساعات عن هذه المحطة، اتصلت بـ «ساشا» الذي نسي موعد وصولي وانتظرته ثلاث ساعات في محطة باردة مظلمة، وكانت تسليتي الوحيدة مراقبة عاملة نظافة نشيطة تمسح أرضية المحطة إياباً وذهاباً كبندول الساعة. ولقد كسرت خاطرها، فعرضت علي المبيت في غرفة بالمحطة فيها عشرون سريراً وسعر السرير بخمسين دولاراً.
إنتهى ذلك العذاب، عندما وصلت لمدينة «خوست» ودخلت غرفتي في منتجع سياحي تم بناؤه في مطلع ستينات القرن الماضي، وضعت رأسي المتعب على وسادة صعقتني برائحة الأمونيا النفاذة، فقد كانت محشوة بريش دجاج شائك وخايس، استرجعت ذاكرتي حركة عاملة النظافة في محطة «شوب» كانت حركة تنويم مغناطيسي بعدها دخلت في غيبوبة ولسان حالي يقول «توبة آخر مرة أغامر».
[email protected] < p>