في خبر بثته وسائل الإعلام، يجعل الإنسان مشتتاً بين مرارة السخرية أو مرارة الحزن، جاء فيه أن السيد أبومازن رئيس (ما يسمى السلطة الفلسطينية) يعلن من باريس أن مفاوضات السلام مع استمرار الاستيطان مضيعة للوقت، وأنهم مع ذلك مستمرون في عملية السلام ولن يصدروا أي قرار إلا بعد التشاور مع اللجان المنبثقة واللجان العاملة للسلام؟
ومع أن السياسة هي حسن قيادة الشعوب بالحكمة، إلا أنها في كثير من الأحيان مهدرة للحقوق، ولعبة الكلام واستمرار الكلام للكلام. فمنذ أكثر من ثلاثين عاماً تم فتح باب المفاوضات مع العدو الصهيوني، والأرض محتلة، ودماء الشهداء لم تجف، ودموع الثكالى لم تتوقف، والمسجد الأقصى أسير بين يدي العدو الصهيوني، ومع ذلك خرجت كلمة السلام تشق الصمت وترتفع بالأوناش الإعلامية رغم أنف الشعوب وأنف الواقع.
وحتى تجد كلمة السلام مع أعداء السلام مخرجاً تتنفس منه... تم تحوير معاني القرآن في قوله تعالى «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها»، ومع أن العدو لم يجنح للسلم كما تقول الآية، إلا أن السلطان أرغم أنف العلماء أن يقولوا نعم للسلام، وتم تقويل الشعب كلمة السلام، وتغنت المطربات والمطربون للسلام، وبدأت المفاوضات، وتعدد الرؤساء والحكام وأسماء المفاوضات واللجان والأماكن والتفسيرات والأجندات، وكل يوم تتغير كلمات ويهوي العرب في سلم التنازلات، ومع ذلك ورغم مرور ثلاثين عاماً يتذكر السيد أبومازن أنها مضيعة للوقت! وصمم على السلام... يا سلام.
كان جديراً بالسيد أبومازن أن يقول تلك الكلمة منذ أعوام عديدة، فالفلسطنيين لم ينعموا بلحظة سلام واحدة مع العدو الصهيوني، فهم يتقلبون ليل نهار، يوماً بعد يوم، في احتلال وقهر وسجن في مناطق متفرقة عن طريق إنشاء مئات المعابر وإقامة الجدار العنصري، ثم القتل وما أدراك ما القتل، الذي لا يتوقف كأن دماء الفلسطينيين التي تجري كالأنهار لا قيمة لها أمام وهْم السلام، ويزداد الأمر بأسْر واعتقال ما يزيد على عشرة آلاف أسير فلسطيني، منهم النساء والأطفال وأعضاء البرلمان، وهذا إضافة إلى حصار غزة وتجويع شعبها وتدميرها وقتل خمسة آلاف فلسطيني ما زالت دماؤهم لم تجف في شوارع غزة... كل ذلك والقوم يسيرون وراء وهْم السلام.
اللافت أن أبومازن ومن معه يقبلون بأي شيء، ومع ذلك العدو بكل غرور لا يعطيهم أي شيء، والمحزن أن القوم مصرون على السير في طريق السراب، فمع أن القرآن كتاب الله المقدس الذي لا يأتيه الباطل عرَّفنا حقيقة العدو الصهيوني وإسرافه في القتل، وأن شيمته الغدر أصل متوطن في حمضه النووي، والتاريخ أكد لنا ذلك، والواقع يشهد ويصرخ بذلك، ومع ذلك أبومازن ومن معه لا يتراجعون عن السير وراء السراب.
البعض يقول إنهم لا يملكون أي قوة وأنهم ليس لديهم إلا ذلك، فالعرب تركوهم للعدو الصهيوني والقضية أصبحت فلسطينية فقط بعدما كانت عربية. والحقيقة أن ذلك القول مردود عليه من حيث أوراق القوة، فالفلسطينيون يملكون من القوة الكثير، منها قوة حقهم وقوة شعبهم، فأي قيادي سياسي يفقد قوة أوراقه إذا لم يكن معه حق أو لم يكن معه شعب يؤيده، ومهما كان يملك من قوة سلاح فموقفه ضعيف، وضعف سلطة أبومازن مرجعه إلى ضعف السلطة داخلياً، فغالبية الشعب الفلسطيني رافض لسياستها.
أما تراجع الموقف العربي فهو حق، ولكنه تراجع غير مؤثر، فكم من شعب جاهد وقاوم وصبر على الاحتلال وظلمه حتى نال حقه ولم يكن جزءاً من الأمة العربية أو الإسلامية، وها هي كشمير وقضيتها مشابهة في بعض النواحي لقضية فلسطين إلا أن قيادة الشعب الكشميري السياسية لم تتنازل عن حقها ولم تجر وراء سراب وهْم السلام بتضييع حقها جزءا وراء جزء، وهم صابرون على ظلم الاحتلال حتى يأتي نصر الله، ورغم أنهم مسلمون فإن المسلمين تركوهم أيضاً لكنهم ثابتون على حقهم.
ويبقى نداء استغاثة للسيد أبومازن وأنا أقدر جهده في الطيران إلى عواصم العالم من أجل السير وراء وهْم السلام، ولكننا نستغيث، ونطالبه أن يحسن اختيار ألفاظه الديبلوماسية، فهل من المعقول أنه بعد كل ما جرى ويجري للفلسطينيين ننتبه بعد تلك الأعوام ونقول إن المفاوضات مع الاستيطان مضيعة للوقت. وما رأيك بالمفاوضات مع استمرار قتل الفلسطينيين واحتلال المسجد الأقصى ودم المسلم أشد حرمة عند الله من حرمة المسجد الحرام، والاستيطان خطيئة من خطايا الاحتلال، والسيد أبومازن بعد مضيعة الوقت قال إنه ما زال مصراً على السلام، والمسلمون والعرب والفلسطينيون يطالبونه ولو مرة واحدة أن يصر على المقاومة من أجل حقوق شعبه المشروعة ولا يطالبونه إلا بالمقاومة السياسية، فالمقاومة بالسلاح لها رجالها ومجالها، وهي حق لايختلف عليه اثنان في العالم من أجل تحرير الوطن والأرض. ولكن العرب والمسلمين يريدون من أبومازن الإصرار على المواقف السياسية القوية والتمسك بالحقوق ولينظر وليتعلم كيف يصنع أردوغان المواقف القوية وهو ليس فلسطينيا... وكفى مضيعة للوقت.
ممدوح إسماعيل
محام وكاتب
[email protected]