من تاريخ الأدب العربي / الحياة المظلمة... بشار بن برد
1 يناير 1970
05:25 م
|محمد سعود المطيري|
الحياة المظلمة والتي تتلبد في كثير من الأحيان بالسواد والظلام الدامس، الذي قد لا يخالطه لون آخر غير الظلام الدامس، فتصبح الحياة ملونة بالسواد الذي قد لا يخالطه لون آخر، من ذاك اللون الملبد بالسواد والذي يخلطه الأمل، فيخرج من ذاك الظلام المعتم والملبد بالسواد، إلى أمل يرتقي بصاحبه إلى العُلى والرفعة والنهوض من تلك الجراح.
فعندما يتحول ذاك الظلام إلى أمل يأخذ بصاحبه إلى العُلا والرفعة، فإنه سوف يرفعه إلى درجة عالية من التفوق في حياته.
فتلك كانت حياة شاعرنا لهذا اليوم، فعندما يولد الإنسان وقد تمكن من العمى منذ أن كان صغيراً، فتغلب على تلك الحياة المظلمة التي اكتست بالظلام الدامس إلى نور يضيء حوله الأنوار من كل جانب، فإن تكون ضريراً ليس أن تكون فاقد الإرادة فقط لا بد أن تتحول تلك الإعاقة إلى طموح وأمل يضيء الدرب للآخرين.
فعندما يصف الشاعر أمورا حسية ملموسة فإن القارئ بالتأكيد يظن أن من وصف في تلك الأبيات هو من المبصرين، وعندما يصل ذاك الوصف إلى حد الإقناع أو إلى حد الإبداع فإنك سوف تندهش من روائع من خطته أنامله.
فالصورة البصرية الحركية الحسية لابد أن يكون من قام بوصفها سيكون بالتأكيد من المبصرين المدركين لحاسة البصر التي بها يدرك الكثير من الأدوات المحسوسة، كما إن حاسة البصر ليست كحاسة السمع أو اللمس في تصوير الصور الحسية بواقعها أو حتى المبالغة في تصوير تلك الصور، وبيان لما هذه الصور من جمالية وذلك من قوله:
ياقوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحياناً
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم
الأذن كالعين توفي القلب ماكان
ومن ذلك قوله:
فقلت دعوا قلبي ومااختار وارتضى
فبالقلب لا بالعين يبصر ذو اللب
وماتبصر العينان في موضع الهوى
ولاتسمع الأذنان إلا من القلب
فلقد أبدع بشار بن برد في تصوير تلك الصور الجمالية الرائعة والتي إن قرأت تلك الأبيات فإنك تشعر أن من قام بكتابة تلك الأبيات هو من المبصرين بالتأكيد، فقد وظف شاعرنا ذاك التوظيف المبدع في وصف المعارك بقوله:
غـدونا له والشمس في خدر أمها
تـطالعنا والـطل لـم يـجر ذائب
كـأن مـثار الـنقع فوق رؤوسنا
وأسـيافنا لـيل تـهاوى كـواكبه
وأرعـن يغشى الشمس لون حديده
وتـخلس أبـصار الـكماة كتائبه
فكثير مما يعتقد أن من وصف تلك الصور الرائعة وبيان ما عليه المعارك من أوصاف قد تستبق الكثير من المبصرين والذين يمتلكون حاسة الابصار، بل وأنه تفوق على كثير منهم بالكثير من الصور، فقد تجاوز شاعرنا حدود الأذهان إلى حدود الإبصار، ونقلنا إلى جماليات رائعة فاق الكثير من الشعراء في عصره.
فعلى الرغم من إبداعه الذي لا يخالطه إبداع وتميز، إلا أنه لابد من الوقوف أمام قيمة ذلك الشاعر، فالشاعر قد تميز بشعر الهجاء والذي كثيراً ما كان يعاقبه والده على ما قام به من هجاء فاحش، بل أنه يصيب سهامه للكثير من لا يجزل العطاء له، بل أنه يصوب سهامه لمن لا يقوم بإعطائه.
وقد كان لهذا الهجاء ما كان سبب في قتله واتهامه بالزندقة في عهد المهدي، وقد ضرب بالسياط إلى أن توفاه الله عز وجل، ولشاعرنا الكثير من القصائد الرائعة التي أبدع بها كقوله:
وذات دلٍ كـأن البـدرُ صورتهـا
باتت تُغني عميد القلـب سكرانـا
ان العيون التي في طرفها حـور
قتلننـا ثـم لـم يحييـن قتلانـا
قلتُ احسنتِ يا سُؤلي ويا أملـي
فاسمعينـي جـزاكِ الله إحسانـا