جعفر رجب / تحت الحزام / تاريخ قابل للكسر

1 يناير 1970 03:54 م
علينا تقلب صفحاتها بحذر شديد، فهي أرق من خد طفلة، وأضعف من جناح عصفور، نبحث في سراديبها ودهاليزها وطرقها... ونكتشف ان اغلب طرقها توصل الى طريق مسدود، يوقفنا ويفتشنا شرطة المحرمات والمحظورات... فللتاريخ حرمة، ولا حرمة حريم هارون الرشيد!

تاريخنا زئبقي، لانستطيع ان نمسك منه شيئاً، او نمسك عليه شيئاً، كل من في ماضينا طيب وابن ناس، وكل من يسلب من غيره في ليل اغبر، لقب الخليفة او الوالي فهو عادل صادق يجاهد سنة، ويحج سنة، ويصوم سنة، ويعتكف سنة... فالامويون خلفاء الاسلام وحماته، والعباسيون قتلة الامويين ايضا حماة الاسلام، السلاجقة المماليك العثمانيون الفاطميون كلهم حماة الاسلام، بناة مجده، يقتلون بعضهم البعض، ويسبحون في برك الدم، ويسبح الناس لهم في العشي والإبكار!

كلهم يدخلون الجنة، المقتول شهيد، والقاتل الذي اجتهد فاخطأ في قتله، وسيحصل على حسنة، ثوابا لقتله، ومعلش «الجايات اكثر من الرايحات» وسيرزق قريبا باجتهاد يصيب، يقتل، ويحصل على حسنتين مع مرتبة الشرف، ثم يتربع ليتعشى على رؤوس قتلاه! تاريخ، به كل والٍ تخرج من دنيانا، برقبته آلاف القتلى، بدأ بقتل اخوانه ثم يصفي كل من يمر امام قصره!

تاريخنا طيب وطريف يجلس الخليفة «تالي الليل»، في قصره يشاهد رقص الجواري، يستمع الى غناء العازفات، ثم يدخل شاعر البلاط، ويلقي عليه ثلاثة آلاف بيت كل بيت 600 متر على شارعين، فيسعد الخليفة ويعطيه الف الف دينار من زكوات بيت مال المسلمين... ثم يدخل رجل الدين الجالس في الخارج انتظارا لوصلته، ويلقي موعظة عصماء، فتبتل لحية الخليفة

بالدموع بسبب عظته، ويخرج الواعظ الملكي وهو يحمل معه خمسين الفا من بيت المال... ايامها كان بيت المال سايب... مثل هذه الايام!

تاريخنا ليس كله اسود بل هي علبة ألوان بـ 84 لونا، هنا اسود وهناك بعض من البياض ومابين بين كثير، والمصيبة عندما نصر على تبييضه، وعلى حمل القلم الاحمر ووضع الخطوط تحت كل الشخصيات والاحداث التاريخية، بدعوى الحفاظ على تاريخنا وعدم الاساءة لهم، ونجهز محاكم التفتيش لمن يتعدى على الذات المقدسة للتاريخ، وكأننا نؤرخ لتاريخ الملائكة لا البشر، وما يحملون من شرور، ولا أعرف كيف يمكن للانسان ان يتعلم من تجاربه الشخصية، لو لم يكن صريحا مع نفسه في كشف اخطائه، فما بالكم بتاريخ أمة كاملة نصر على انها امة معصومة!

يحملون أقلامهم الحمراء، لسبب واحد، لانهم متيقنون ان تاريخنا، وبسبب خوفنا منه وعليه، تحول الى تاريخ «فريجايل» قابل للكسر...والاقوام التي تحمل تاريخا كسيحا لايمكنها المسير!





جعفر رجب

[email protected]