منى فهد الوهيب / رأي قلمي / استقلالية المفكر مقيدة!

1 يناير 1970 08:34 م
قرأت كتبا عدة في الفكر والتفكير وأكثر ما شد انتباهي وهالني استغراباً لا استعجاباً أن المفكر لا يكون مستقلاً في تفكيره لقيود عدة تقيد فكره، ونحن نعلم أن إي إنسان مهما بلغ من النضج العقلي لا يمكن أن يكون مستقلاً استقلالاً تاماً في تفكيره، وهذا يرجع إلى قصور كثيرة في بني البشر، ولكن المفكر شيء آخر فعليه جهداً متواصلاً في بناء عقليته كعقلية متحررة من كثير من القيود التي يواجهها في حياته وتصادم تفكيره وأفكاره.

إن في كل بيئة من البيئات مفاهيم وعادات وتقاليد ومعلومات معتمدة لدى أبناء تلك البيئة، فينطلقون من مدلولاتها ومفاهيمها وعاداتها ومسلماتها في تصوراتهم للواقع وفي إصدار أحكامهم على الأشخاص والأحداث والمواقف التي تواجههم، ومهما كانت هذه البيئة متعلمة وصالحة وراقية فإنه سيظل فيها ما هو غير مقبول أو مثار جدل، ومن هنا على المفكر الا يرضخ لقيود بيئته غير المقبولة ويستسلم، فعليه أن يتطلع إلى ما هو خارج بيئته حتى يستطيع أن يتفكك من إيحاء وتأثير بيئته.

وإن أكثر ما نعاني منه اليوم هو قيد الانتماء إلى حزب، أو جهة، أو جماعة، أو قبيلة، أو مؤسسة، وهذا ما يجعل المفكر يفقد حياده، ويعّرض عقله للتشويه عند تفكيره وتنظيره وإصداره للأحكام. وهذا ما نراه اليوم منتشرا ومتفشيا على الساحة حتى مع النخبة من المفكرين أصبحوا مقيدين بقيد الانتماء، وبالتالي لا يكونوا مخلصين للحقيقة وموضوعيين في مواقفهم.

والانتماء يكون فضيلة وشيئا أساسيا في حياة الإنسان عندما ينحاز إلى الكليات والثوابت المتفق عليها في الدين، لأنه بذلك يوفر لنفسه أرضية صلبة يقف عليها ومرجعا يحتكم إليه، وإلا قد يفقد الاتجاه الصحيح ويضيع ويتيه كما تاه الكثير من المفكرين في الماضي والحاضر.

إن الله تعالى أنعم على كثير من البشر بنعمة كبرى وهي قوة الذاكرة، وإن الإنسان من غير ذاكرة فهو من غير خبرة ولا تراكم معرفي، ولكن الذاكرة تثير كثيرا من المشكلات في وجه العقل بما أنه بنية للإبداع والتجديد والنقد... وهذه المشكلات تنبع من التضاد ما بين طبيعة الذاكرة، وبين ما يريده الإنسان من العقل. ومن هنا تبدأ المشكلات بين الذاكرة وعقل المفكر فيُقيَّد المفكر بالذاكرة ويصبح أسيرا لها، لأن الذاكرة تحاول أن تحافظ على مكنوناتها من خلال مقاومتها لأي حذف أو غربلة لما تقتنيه من أفكار، أي تطلب من العقل أن ينصرف عن التفكير في الماضي، والانصراف إلى أي شيء آخر، ومعظم العقول تخضع لها بالفعل والدليل هو قلة المجتهدين والمفكرين وكثرة الحفظة والمقلدين.

حقاً إن عقل المفكر في حاجة إلى علاقة متوازنة مع الذاكرة حتى لا يستغني عن ما لديه من أفكار وإبداعات، وحتى يصبح مفكراً متحرراً من قيود ذاكرته فهو يحتاج إلى رصيد جار من الرؤى النقدية للماضي والواقع وربطها بسنن الله الكونية حتى يبدع في صناعة وإنتاج الأفكار والمفاهيم.

ولا يخفى عليك عزيزي القارئ أن هذه الرؤى قد يشوبها أفعال البشر وأحكامهم في كل زمان ومكان، فعلى المفكر أن ينتفع من الذاكرة دون أن يُغرق فكره في مياهها، وهو أن يأخذ من عبرة الماضي لإصلاح الحاضر.

وحتى لا يُقيِّد المفكر فكره ويفقد استقلاليته، ونحن في أمس الحاجة لفكره الصانع والمنتج للأفكار والمفاهيم المقننة والمقيدة بإطار الشريعة، فعليه أن يتحرر من تلك القيود، ولكن بشرط أساسي، وهو ينبغي أن يكون شديد الحذر وهو يتفكك من تلك القيود حتى لا يجد نفسه منفتحا على عالم خال من الكليات والثوابت والأصول التي تصحح وتقوّم مسار تفكيره.





منى فهد الوهيب

[email protected]