سامي كليب / لبنان بعيون سيّاحه
1 يناير 1970
07:14 ص
| سامي كليب |
مشكور التين اللذيذ ومشكورالبطيخ ذو الطعم السكري لانقاذهما شيئا من ماء وجهنا في هذه الايام الرمضانية مع بعض زوارنا من السياح العرب. وأما البقية من شؤون الكهرباء والماء والهاتف وأمراض العيون والبضائع الفاسدة والفساد المستشري في جل مفاصل البلد والقلق الامني، فقد كانت أوقح من أن يتحملها بعض زملائنا الصحافيين العرب الذين زارونا وغادرونا قبل انتهاء اجازتهم، وكل منهم يتذرع بذريعة خاصة للهروب من لبنان الذي حوله ساسته من سويسرا الشرق الى جحيم هذا الشرق. وإليكم القصة من بدايتها:
جاءنا بعض الزملاء العرب قبل أيام من تونس وقطر والجزائر وسورية بغية قضاء جزء من شهر رمضان الكريم في بيروت. دغدغتهم منذ أشهر تصريحات بعض الزعماء من امراء حرب سابقين حول صيف هادئ وسياحة عامرة، او من السياسيين الطارئين على السياسة لأسباب عائلية او طائفية او عشائرية، وناغشتهم صور الكليبات التلفزيونية (مشكورة «روتانا») الموحية بأن كل شيء في بلاد الأرز يرقص فرحا ونشوة، وان الرفاهية تعم العاصمة والضواحي، وان أحزمة البؤس التي أسست لحروب سابقة، انما اختفت وقامت مكانها الأبراج والشوارع النظيفة والأنوار.
مرحبا بكم، تبتسم موظفة الأمن العام في المطار. جل الموظفين الجدد هم من الشباب المهفهف الأنيق هنداما وكلاما. صورة جيدة لبداية الرحلة. عال.
لكن الرحلة سرعان ما ترسم كل خطوط العذاب والقهر. زحمة سير خانقة بين المطار وبيروت.
الجميع «يتفرج» على حادث، والشرطي يدخن سيجارته. اشارات مرور توحي بأنها هنا فقط للفرجة، أو انها شاهدة على تقهقر حالنا. نرفزات السائقين يتخللها اشتباك بالأيادي وشتائم من كل الانواع بسبب افضلية المرور ويختتمها الشتامون بعبارة: «اللهم اني صائم».
أخبار «صوت لبنان» تفصَل ما حصل في برج ابي حيدر قبل ليلة، يشرح السائق للزملاء السياح ان الاشتباك حصل في منطقة بعيدة عن طريق سير السيارة، تشد صديقتنا على يد زوجها القطري بشيء من القلق.
يصل موكب زملائنا الى المنزل. البناية موحية من خارجها بشيء من طمأنينة المكان وتمد رجليها قليلا صوب البحر. ولكن ناطور البناية غادر قليلا لشراء خضراوات الافطار، فلا بد من الانتظار لعشر دقائق حتى يتكرم الشاب السوداني المتآلف مع لبنان منذ 8 سنوات بتشغيل «موتور» الكهرباء. يتهافت الزملاء الى المصعد والعرق يتصبب من وجوههم ويسيل معه بعض ماكياج الزميلتين السورية والتونسية.
لابأس، لعلها لحظات عابرة، يفكر زميلنا القطري الساعي للتخفيف من تأفف زوجته، فهما كانا قد ودعا حرارة قطر التي تصل الى نحو 60 درجة، لكن المكيفات هناك تشتغل 24 ساعة على 7 أيام، تشتغل أينما كان، فلا يشعر الخليجي عادة بجور الطبيعة... الا اذا زار سويسرا الشرق. مفارقة غريبة.
ترحيب سريع، وخبريات متنوعة تنسي زملاءنا السياح هموم الرحلة، وقليل من «الليموناضة» والجلاب، يرطب الأجواء الملتهبة عند بحر بيروت... تنفرج الأسارير، ينتقل الحديث الى بعض النكات والطرائف... يتصل الناطور السوداني: «استاذ، الرجاء عدم الاسراف بالمياه اليوم، فهي ستنقطع حتى صباح الغد....». نشكر الله أننا توقعنا ذلك وخزّنا على مدى اليومين الماضيين كل ما يلزم لراحة ضيوفنا - السياح....
حان موعد مسلسل «أبو جانتي» السوري الممتع، ولعله الاكثر امتاعا بين مسلسلات الشهر الكريم، أو لعلنا في لبنان وجدناه كذلك لأن فيه ما يفرج عن الناس كروب الكهرباء والماء والهاتف... يصدح الممثل السوري سامر المصري بصوته الحلو وابتسامته المريحة: «يا بو السيارة اللانسر، واللانسر عيني يا يُمّا، يا بو سبع مارايا، مكتوب على رفرافا ابو جنتي عيني يا يُمّا وخصوصي للصبايا...» لا يكاد ينهي جملته الاخيرة حتى «تبرغل» شاشة التلفزيون... اتصال آخر مع الناطور السوداني، جواب جاهز: «عذرا يا استاذ، الزول (أي الرجل) المهتم بالدش (الصحن اللاقط) يتناول الافطار ولن يعود قبل ساعة...».
نغضب، نلجم عباراتنا القاسية حيال الدولة وساستها ليس حبا بهم ولكن لكي لا نعكر رحلة ضيوفنا منذ يومها الأول، تمر الساعة هادئة لا بل وفيها شيء من الرومانسية، فالشمس التي ودعت لتوها سقف البحر تركت خلفها شيئا يؤكد روعة الخالق.
يدق جرس الباب، يقف خلفه الشاب المصري المكلف شؤون مجلس خدمة الدش: «السلام عليكم ورمضان كريم يا باشا» يقول مبتسما، شأنه شأن جل المصريين يضحكون على مآسينا كما يضحكون على مآسيهم، ولو التقيت به كل نصف ساعة سيقول لك: «كل عام وانت طيب يا باشا»... نسأله عن الدش ونرجوه تسريع اصلاحه للحاق بمسلسل «أهل الراية»... يضحك ويعتذر ويقول ان اصحاب الدش باعوه الى شركة اخرى وان الشركة المصونة لن تباشر بإصلاحه قبل اسبوع... عال... يفرك عينيه، نسأله عن سبب تورم عينه واحمرارها، فيشرح ان ثمة فايروس ضرب بعض المناطق اللبنانية وانه معد. قال ذلك بعد ان كان لامس تقريبا كل شيء حول التلفزيون. تسارع الزميلة التونسية لتنظيف يديها بالدواء المعقم، يسأل الزميل القطري ما اذا كان من الضروري شراء دواء معين.
ننتظر عودة الكهرباء والتلفزيون، يسعى بعض زوارنا لتقطيع الوقت بالاتصال بعائلاتهم، يكررون المحاولة الهاتفية أكثر من مرة، نخبرهم انه منذ بدأت مسيرة القبض على الجواسيس باتت خطوط الهاتف شديدة الصعوبة، تضحك زميلتنا التونسية قائلة: «اعيدوا اطلاق الجواسيس خدمة للكهرباء» يقهقه الجميع، الا السوريين.
تعالوا ننزل الى وسط بيروت تقترح زميلتنا السورية. تستفسر زوجة زميلنا القطري وهي بالمناسبة زميلة عراقية: «الداون تاون يعني؟»... نعم.
تمر الأيام على غرار اليوم الأول، يصبح زميلنا القطري خبيرا بشؤون الكهرباء وتنويعاتها، يعرف متى يدور الموتور، ومتى تأتي الكهرباء، ومتى نكتفي بالجهاز المشغل لعدد قليل من «اللمبات»، وتتحول زوجته الى خبيرة الريموت كونترول، بحيث تنتقل بسرعة فائقة من محطة «مبرغلة» الى اخرى مقبولة. وتتولى الزميلة التونسية وزوجها شؤون ادارة المكيفات بحيث كلما «تكت الساعة» (فصلت) تسارع الى اطفاء مكيفين والابقاء على الثالث.
تضحك زميلتنا السورية، وهي بالمناسبة صاحبة نكتة من الطراز الرفيع، لعل لديها الكثير من الاسباب التي تضحكها، فالكهرباء في سورية قلما تنقطع منذ سنوات طويلة، ولو انقطعت فلساعة او اثنتين فقط، وثورة الارز الشهيرة تلفظ أنفاسها الاخيرة على طريق المصنع، وامراء الحرب وزملاؤهم من الطارئين على السياسة اللبنانية يتنافسون في تحميل بعضهم البعض مسؤولية المياه والكهرباء، ومسؤولو وزارة الصحة وحماية المستهلك يحذرون تارة من العصائر الفاسدة في الشهر الكريم، ومرة اخرى من أمراض العيون، ويكلل وزير التربية حسن منيمنة كل ذلك بالكشف عن شبكة تزوير الشهادات التربوية...
تضحك الزميلة السورية وتلتقط خبر وزارة التربية بتعليق لئيم، قالت: «لعل من يحكمونكم اليوم نجحوا في السابق بتزوير شهاداتهم، ذلك انه من المستحيل في بلد الثلوج والامطار والانهار أن يتسول الكهرباء والماء»...
يتبارى زوارنا وزملاؤنا العرب في دعوتنا الى بلادهم حيث الماء والكهرباء والهاتف والطرقات وكل شيء يسير على نحو جيد. نعدهم خيرا.
غادروا جميعا في الصباح. لم يقولوا شيئا. ماذا سيقولون؟ ونحن بدورنا شكرنا الدولة الكريمة وكل الساهرين على دمارها المحتوم على منحنا قليلا من الكهرباء لكي لا ينزل زملاؤنا السياح سيرا على الاقدام من الطابق الخامس... كان «الزول» السوداني نائما هانئا، فالمروحة تشتغل فوق رأسه، وهي قلما تشتغل.
عجبت لمقهور لا يخرج على المسؤولين شاهرا سيفه.