الرجل الثاني في حياة العظماء والمشاهير (3) / قاد المقاومة بعد استشهاد أسد الصحراء حتى سقط في الميدان (1 من 2)

بورحيل... شريك عمر المختار في النضال

1 يناير 1970 02:15 م
| القاهرة من محمد عبدالفتاح |

في تاريخ كل أمة رجال عظماء قادوا النضال والكفاح في سبيل تحرير أوطانهم والوصول بها إلى بر الأمان... واستطاعوا بما لديهم من قدرات خاصة وموهبة في القيادة وشجاعة وإقدام أن يحققوا أهداف وطموحات شعوبهم، وأيضا نجوم ومشاهير قدموا الكثير وحفروا أسماءهم في ذاكرة الناس وصفحات التاريخ كل في مجاله، فنالوا كل تكريم واحترام وحفظهم التاريخ في ذاكرته.

وفي حياة كل عظيم «رجل ثان» كان معه يشد من أذره ويسانده ويدعمه ويقف بجواره في أصعب المواقف وأحرج اللحظات وكان له بمثابة الذراع اليمنى... ومن هؤلاء من اكتفى بهذا الدور وارتضى أن يظل دائما في الظل وربما ينساه التاريخ، ومنهم من أراد أن يحقق ذاته هو الآخر وأن يقفز إلى مكانة الرجل الأول ووصل بعضهم بالفعل إلى هذه المكانة، ولكنهم احتفظوا بولائهم واحترامهم لزعمائهم، وساروا على دربهم وأكملوا مسيرتهم... ومنهم من ضعف إيمانه وانساق وراء شيطانه وانقلب على زعيمه فقتله أو عزله واحتل مكانه ليحقق ذاته أو عن اقتناع منه بأنه هو السبب في كل ما تحقق من إنجازات، ومن ثم يرى نفسه الأحق باحتلال الصدارة.

«الراي» في سلسلة حلقات «الرجل الثاني في حياة العظماء والمشاهير... رجل ثان» تلقي الضوء على حياة هؤلاء الرجال وكيف كانوا سببا في ما وصل إليه بعض العظماء من مجد وشهرة بفضل مساندتهم المخلصة لهم. وكيف تحول بعضهم إلى عظماء هم أيضا وصنعوا لأنفسهم تاريخا لا يقل عن تاريخ العظماء الذين اتبعوهم في بداية حياتهم .

كما ترصد في دقة تفاصيل العلاقة التي تجمع بين الاثنين من البداية وحتى النهاية، وتستعرض مسيرة الرجل الثاني منذ ولادته، وكيف تعرف على الرجل الأول أو زعيمه، والاسباب التي دفعته للانضمام إليه ومرافقته كفاحه الطويل ، وبعض المواقف التي برز دوره فيها بوضوح.

وخلال «15» حلقة نتناول عددا من الشخصيات المؤثرة في التاريخ سواء في أوطانهم أو على المستوى العالمي... منهم الساسة والقادة العسكريون ورجال الفكر والأدب.

كذلك تعرض الحلقات لبعض قصص النجاح في الوسط الفني التي كان الرجل الثاني فيها سببا مباشرا في سطوع نجم الفنان وبلوغه قمة المجد والشهرة.



تبدو قصة البطل الليبي العظيم عمر المختار أشبه بالأسطورة... فالرجل تحول من معلم يدرس علوم القرآن والفقه والتفسير للصغار إلى محارب فذ وقائد مقدام، قاد مجموعة من بني جلدته من نصر إلى نصر على الغزاة الإيطاليين، وأذاقهم مرارة الهزيمة على مدار نحو 20 عاما، فكان من الطبيعي أن يلقب بشيخ المجاهدين و«أسد الصحراء».

والمختار كان قويا جسورا لا يهاب عدوه أبدا ولا يرهبه مهما بلغت قوته، وقد اتضح ذلك عندما وقع في الأسر، حيث قال للقائد الإيطالي الشهير «غراتسياني»: «حاربتكم من أجل ديني ووطني ولطردكم من بلادي... لأنكم مغتصبون».

وعندما ساومه على إطلاق سراحه مقابل توقف الثوار عن المقاومة قال المختار: «نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد تلو الآخر ولا نسلم أو نلقي سلاحنا».

أما آخر كلماته قبل إعدامه في العام 1931 فقد كانت: «نحن لا نستسلم... ننتصر أو نموت... وهذه ليست النهاية... بل سيكون عليكم محاربة الجيل المقبل والأجيال التالية... أما أنا... فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي».

وإذا كان عمر المختار هو أبرز المجاهدين الليبيين، فقد كان حوله رجال أشداء مخلصون له مؤمنون بعدالة القضية التي يحاربون من أجلها، ووثقوا في قائدهم وقدموا له كل ما يملكون من دعم ومناصرة... وكان على رأس هؤلاء المجاهد العظيم «يوسف بورحيل» الذي عرف عمر المختار معلما وعمل معه في تدريس العلوم الدينية، وعندما فتح باب الجهاد سارع إليه ووقف بجانب قائده وقدم له كل الدعم والمؤازرة ثم أصبح ساعده الأيمن وشريكا أساسيا في وضع الخطط الحربية في مواجهة الطليان.

وقال عنه أسد الصحراء «لا عمر المختار من دون يوسف أبورحيل»، وظل الرجلان يجاهدان معاً إلى أن استشهد شيخ المجاهدين فخلفه بورحيل في قيادة المقاومة، وسار على نهجه إلى أن استشهد هو الآخر في ميدان المعركة.

ولد يوسف بورحيل المسماري في العام1866 - بحسب كتب التاريخ - بمنطقة مدور الزيتون بالقرب من قرية تاكنس شرق مدينة المرج الليبية بالجبل الأخضر، وعرف بلقب بوخديدة لأنه سقط في النار وهو طفل صغير فتأثر خده الأيمن وجفن عينه، وبقي أثر هذا الحرق واضحا على وجهه حتى استشهاده. كان متوسط الطول يميل إلى النحافة أبيض البشرة يهتم كثيرا بأناقته، وكان منضبطا في حياته متحليا بالأخلاق الحميدة ورجاحة العقل، كما أنه كان فقيها في أصول الدين ومتحدثا لبقا لذا لقب بأنه عقل حركة الجهاد «العقل المدبر».

تعرف بورحيل على شيخ المجاهدين عمر المختار وكان يكبره بسنوات، والتقت أفكارهما إلى حد بعيد في الكثير من أمور الحياة، خصوصا فيما يتعلق بالنواحي الدينية، ومن وقتها توطدت العلاقة بين الرجلين ونشأت بينهما صداقة قوامها الاحترام المتبادل والثقة المتناهية... وبعد تلقي بورحيل دروس علوم القرآن والفقه والتفسير أصبح معلما في زاوية «القصور» وكان عمر المختار شيخا لها، وكثيرا ما كان بورحيل ينوب عنه في الإشراف على تعليم الصغار وتسهيل الأمور للمعلمين وللطلبة بالزاوية. وهكذا كانت بداية مشوار الرجلين اللذين أصبحا فيما بعد رفيقي سلاح في مواجهة الاحتلال الإيطالي للأراضي الليبية.



جهاده

عندما غزت القوات الإيطالية الأراضي الليبية في العام 1911، أطلق المجاهد الليبي أحمد الشريف نداء الجهاد من خلال منشور عممه على المشايخ ورؤساء القبائل في مختلف المناطق الليبية، وحث فيه الجميع على الإسراع بالالتحاق بميادين القتال والتفاني في الدفاع عن الوطن، محذرا من مغبة التهاون أو التقصير في أداء الواجب الوطني، وأعلن تبرؤه ممن لا يستجيب لهذا النداء أو من يتعاون مع الأعداء.

هنا هب يوسف بورحيل لتلبية النداء الوطني، وانضم إلى المجاهدين بقيادة صديقه عمر المختار.

وفي العام 1922 عينه المختار نائبا له، وإلى جانب هذا المنصب الرفيع أصبح بورحيل عضوا في المجلس العسكري الأعلى الذي يتكون من رؤساء الأدوار بالمنطقة الشرقية ويشرف عليها، وكان المجلس برئاسة المختار.

ومن مهامه قيادة حركة الجهاد محليا وعربيا ودوليا، وبعد هذا التنظيم الدقيق بدأت المقاومة تكبد العدو الإيطالي الخسائر تلو الأخرى، حتى أصبح عاجزا عن التحرك خصوصا في فترة الليل، وغدا التفوق العددي في الرجال والسلاح عند الإيطاليين وهمّا باطلا ؛ لأن القتال لم يكن ضد عدو منظم، وكذلك لعدم الإمساك بزمام المبادرة.

ويرجع هذا إلى الطرق والأساليب التي اتبعها المجاهدون، وهي أساليب حرب العصابات حيث كانت خططهم الحربية تعتمد على الكر والفر، وهذه الطريقة أرهقت القوات الإيطالية وكبدتها خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، ما أجبرها على استجلاب كتائب أخرى لتعزيز مواقعها.

وقد كان المجاهد يوسف بورحيل من أبرز مستشاري الشيخ عمر المختار في كل هذه الحروب وأقرب المقربين إليه.

ونظرا لأهمية منطقة «جردس» جغرافيا - لكونها مقرا لقيادة الشيخ عمر المختار الرئيسية - وجه الإيطاليون إليها عدة حملات عسكرية، وقد تمكن المجاهدون الذين يقودهم يوسف بورحيل من صد جميع تلك الحملات وهزيمة الإيطاليين هزيمة منكرة في معارك الحيران في 19 أبريل 1923، ومعركة جردس في أغسطس 1923، والرحيبة 28 مارس 1927، ومعركة يوم عيد الفطر 13 مارس 1929.

كما كلفه الشيخ عمر المختار بمهام كثيرة فكان رجل الأمن وشيخ المنازعات. ولهذا لعب أدوارا متعددة، ولم يتأخر عن أية معركة كان فيها الشيخ عمر المختار، وكان حريصا على حياة قائده، ولم يفاوض الشيخ عمر المختار الإيطاليين، إلا وكان المجاهد يوسف بورحيل خارج الخيام لتغطية أمن قائده والعين الساهرة على حياته.

وعندما تشكلت الأدوار للمرة الثانية بعد العام 192، وأصبح عمر المختار هو قائد المقاومة في عموم الأراضي الليبية... اتخذ بورحيل رفيقا له وكان دائما يشاوره في أمور المقاومة ويشركه في وضع الخطط الحربية، وفي المقابل حرص بو رحيل على تقديم كل الدعم والمساندة لقائده وأظهر بطولة رائعة في العديد من المعارك التي خاضها بجوار المختار، خصوصا في تدبير الخطط الحربية واستغلال أفضل الفرص لضرب الأعداء ضربا موجعا بأقل الخسائر، ما زاد صلته بعمر المختار فأصبح وجوده ضرورة استراتيجية لإدارة المعارك وتمديد مواعيد ومواقع الهجوم، وكانت له نظرة صائبة وفكرة صحيحة وعبقرية عسكرية تدير المعركة لإلحاق أكبر الخسائر بالخصم مع النجاة من أي ضرر قدر الإمكان.