رؤى / عفواً أبا الطيب (2 من 2)

1 يناير 1970 11:23 م
|د.محمد حسان الطيان*|

عفواً أبا الطيب!

لا أجد في عالم الشعر وصفاً أصفك به يليق بعلو مكانتك وسمو منزلتك! فهلا أذنت لي بأن أستعير الوصف من شعرك؟ إنك حقاً كما قلت:

ذُكِرَ الأنامُ لنا فكان قصيدةً

كنتَ البديعَ الفردَ من أبياتها

***

عفواً أبا الطيب!

فلئن تماديت في بعض شعرك وجرت عن القصد... وتعاليت وغلوت... فقلت في إحدى فَلَتاتِك مثلا:

أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي / أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي / وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ / الله وَما لَم يَخلُقِ

مُحتَقَرٌ في هِمَّتي / كَشَعرَةٍ في مَفرِقي

لقد خلفت لنا ثروة يعزُّ مثالها, أغنتنا وروتنا... أطربتنا وأمتعتنا... ومازلنا نتفيأ ظلالها فأين تماديك من عظمتك؟! وأين جورك من روعتك؟!... وأين غلوك من سموك؟! إنها نقطة سوداء في صفحة ناصعة البياض بل هي ريح هوجاء في فضاء واسع رحيب لا حدود له {فأمّا الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}، وقديماً قيل: ليس الفاضل من لا يخطئ وإنما الفاضل من تعد أخطاؤه

فإن يكن الفعلُ الذي ساء واحداً

فأفعاله اللائي سررنَ ألوفُ

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها

كفى المرء نبلاً أن تعدَّ معايبُهْ

***

عفواً أبا الطيب!

فقد علمتنا أن النفوس الكبار تُتعب أجسادها... وأن الأهداف الجسام والغايات العظام تُرهق طلابها وتُعنت روّادها

وإذا كانت النفوس كباراً

تعبت في مرادها الأجسادُ

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبِرا

وضربت لنا المثل الأروع حين تعبت في بناء نفسك... وصبرت وصابرت حتى بلغت ذروة مجدك... وأيُّ نفس أعظم من نفسك وقد جاوزت النجوم في سمائها؟! وأي مجد أعظم من مجدك وقد سارت كلماتك مسير الأمثال في عليائها؟! فهلا سمحت لنا أن نقف وقفة تأمل وتبصر أمام هذه النفس وذلك المجد؟

أنت الذي بلغت بك الفصحى- وإن

عاداك أهل النقص- أوجَ كمالها

***

عفواً أبا الطيب!

فقد أغار على شعرك المغيرون... وانتحل معانيه ومبانيه المنتحلون... ولم يقتصر الأمر على أبناء جلدتك وناطقي لغتك, وإنما تعداه إلى قوم آخرين لاجلدهم من جلدتك، ولا لغتهم من لغتك, قرؤوه مترجماً فوجدوا فيه من بديع المعاني... ورائع الوصف والرصف... وبارع الخيال والتصوير ماسوّلت لهم أنفسهم قنصه، فاستلبوه بلا خجل... وادعوه بلا وجل... ولكن الله سبحانه قيض لهذه الأمة من يحفظ لها أمر لغتها وبيانها... ويفضح كل من سلبها حقها وعدا على لسانها، فأعاد الحق إلى نصابه, ونسب الفضل إلى أصحابه، وأنت أنت يا أبا الطيب هو صاحب الفضل.

وَما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قَلائِدي

إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِداً

عفواً أبا الطيب!

فقد قيّدتَ كل محبٍّ للشعر بحبك... وأوثقت كل محب للعربية بعروتك... وسحرت كل متذوق للفصاحة والبيان بكلماتك..فتاه الجميع بعشقك... وحار الجميع بحسن بيانك!

وكنتَ المحسنَ بما قيدتَ... وكنتَ المبدعَ بما سحرتَ... فلكَ مني ومن كل محبٍّ للعربية وآدابها سلامٌ لا يبيد... ودعاءٌ لاينفَد

وَقَيَّدتُ نَفسي في ذَراكَ مَحَبَّةً

وَمَن وَجَدَ الإِحسانَ قَيداً تَقَيَّدا



* منسق مقررات اللغة العربية بالجامعة العربية المفتوحة في الكويت