حسين الراوي / أبعاد السطور / متشرّد في مدائن الورق

1 يناير 1970 01:01 م
بين رغباتي الغريبة ورغباتي المألوفة

وبين احتياجي العميق واحتياجي السطحي

وبين حزني الطويل وفرحي القصير

وبين وضوح شخصيتي وغموضها

وبين أمنياتي وتطلعاتي وتشظياتي

وبين ما أملك من ثقافة وكتب وروايات وأوراق

وبين خوفي وشجاعتي وترددي وجسارتي

وبين جوعي وشبعي وسخريتي وجديتي

وبين دموعي وضحكاتي

كنت أتسكع في مدائن الورق

دون أن تكون في جيبي أي ورقة إثبات شخصية

وكنت لا أخشى شيئاً سوى القلم

كنت أخشاه أن ينظر لي بنظرة تعالي

كنت أخافه أن يعاملني بلا مبالاة

وكنت أرجو أن يفتح لي بابه العالي

وكانت في فمي ألف قصيدة وألف لحن

وفي ذاكرتي ألف وجه تركني ورحل

وفي صدري مليون جرح وحُلم

كلها كانت تنتظرني أن أكتب عنها

للناس للشجر الأزهار للجبال للعصافير والفراشات

كان القلم هو المعبر الوحيد لي نحو الأفق

لأن القلم بألف كف وألف فم

لأن الأقلام بعضها سنابل وبعضها مقاصل

كنت أُنافس النوارس في طيرانها

فأُحلق بالكلمة إلى أبعد مدى

وكنت أُنافس البحر باتساعه

فأفل شراع فكري وامخر عبابه

وكنت أطاول شامخات النخيل

فأزرع في سطوري الغيردينيا والياسمين

كنت أظن أحياناً أن مدائن الورق

هي معبر المخذول إلى الأمل

وهي معبر المحزون إلى الفرح

وهي الكفوف اللينة والصدر الحاني

وأحياناً كنت أقول عن مدائن الورق

انها تزيد الهم هماً والحُزن حزناً

وإنها لا تداوي جُرحاً

ولا تُدخل على القلب فرحاً

وأنها ليست إلا وقت ضائع!

ينثره الكُتاب والشُعراء وباقي المثقفين

فوق رؤوس ساعاتهم الطويلة

كما ينثر الضائعون أموالهم

فوق رؤوس الراقصات!

غبت كثيراً في مدائن الورق

أُلوّن أُمنياتي بالألوان المبهجة

وأعمل من كلماتي طائرات ورقية

وأنفخ من رغباتي فقاعات صابونية

وأجدّل من أحزاني ضفائر نسائية

وعندما يكسوا الليل مدائن الورق

أُلملم همي وحزني وشتاتي في صُرة

ثم أُعلقها بعصا فوق كتفي

وأرحل أقطع ليلي بسخرية وتمتمة

أسخر فيها من كل شيء مُظلم

وأُتمتم لأني وحيد في ليلي

متــــشرّد فـــي مـــدائن من ورق!

وعندما يعلوني لون الفجر

تبتسم روحي وتذبل جراحاتي

ويستيقظ كل أمل فيني

فأرفع عيناي عالياً

فأجد أن السماء تربع في منتصفها قلم!





حسين الراوي

كاتب كويتي

[email protected]