لم يعد أيّ شيء قادر على إخافة اللبنانيين، تماما كما أنه بات كلّ شيء يخيفهم في الوقت نفسه. هكذا كما يقول قانون «كلّ شيء أو لا شيء» البيولوجي، ومفاده بأن الرسالة العصبية لا تصل الى المخّ بنسب متفاوتة، بل تصل في شكل واحد او لا تصل. أي أنّه لا يوجد، في الرسالة العصبية الواحدة، أنواع أو رتب من الألم. الألم واحد، لكن ما يزيده اتساعاً هو الحال النفسية، أو مدى اتساع رقعة الخلايا العصبية المشتركة في نقل الرسالة.
لهذا السبب تتخدر بقعة ما من الجسد إذا ضربت في شكل متواصل لفترة طويلة. يكون الألم وصل الى ذروته، ولا شيء يمكن أن يزيد الأمور سوءاً. في الثقافة الشعبية اللبنانية مثل قريب من وصف هذه المعادلة العلمية، يقول: «أكثر من القرد ما مسخ الله». أي أن الأسوأ إذا وقع لا خوف من بعده، وفي الثقافة العربية بيت من الشعر أقرب الى الوصف من المثل السابق: «أنا الغريق فما خوفي من البلل».
البداية كانت البداية، أي الضربة الأولى، في نهاية العام... 2004 يومها وقع خبر محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة كالحجر على رؤوس اللبنانيين. وأدلى معظم سياسيي لبنان بدلوهم في إدانة هذه الجريمة أو تحليلها أو إعطاء الرأي في معناها وتوقيتها أو التدارس في سبل الردّ عليها ومواجهتها. كان اللبنانيون خارجين للتوّ من استحمام طويل بنعيم الأمن الأهلي - لا السلم الأهلي كما جرى القول - الممسوك من قبل توليفة سياسية حكمت منذ اتفاق الطائف، على رأسها القيادة الأمنية والعسكرية والاستخباراتية السورية.
المضادات الحيوية في الجسد اللبناني تعاملت مع هذه المحاولة على أنها صفعة عابرة، وسيكون كلّ شيء على ما يرام من بعدها. اي لحظة كباش سياسي لا بدّ أن تنتهي بسرعة، تماما كما كان وقع تفجير كنيسة سيدة النجاة في بداية التسعينات، واغتيال الوزير إيلي حبيقة في بداية الألفية الثالثة.
لم يلتقط اللبنانيون الإشارة فوراً. أو انهم التقطوها وتجاهلوها، وقرروا أن يغضّوا الطرف وأن يتجاهلوا أنّ الخطر مازال بعيداً، في العراق ربما أو في أفغانستان، وأنه لم يصل الى بيوتهم بعد.
الواقعة الكبرى بعد فترة قصيرة، وقعت الواقعة الكبرى: اغتيال الرئيس رفيق الحريري في وسط بيروت الذي أعاد إعماره، وعلى شاطىء البحر في عيد العشاق - 14 فبراير ...2005 كانت الرسالة قاسية، الى المعارضة التي كانت في طور التشكل ضد الوصاية السورية، وإلى معنى هذا اليوم، عيد العشاق، في القاموس اللبناني. إذ أنّ لبنان، حتى في ضاحيته الجنوبية الموالية لـ «حزب الله»، يتحضر لهذا اليوم كما يتحضر ليوم رأس السنة، فتتزين الواجهات ويتواعد الأصدقاء والعشاق ويشترون الهدايا ويحتفلون.
كان الاغتيال بمثابة البيان رقم واحد بأنّ الليالي الحمراء وبحر العاشقين ورصيفه الشهير سيستقيلان من المشهد البيروتي الى أجل غير مسمّى. فوراً استنفرت الكريات البيضاء في دماء الشارع اللبناني ووضعت في أعلى درجات الاستعداد. وكانت النتيجة ساحتين لا تقبل أيّ واحدة منهما بأقلّ من ستة أصفار لاحتساب عدد سكانها المؤقتين. كان الردّ على الاغتيال بأن نزل الشعب اللبناني كلّه الى الشارع، منقسماً بالطبع، بين ساحة رياض الصلح في الثامن من مارس، وساحة الشهداء، ساحة الحرية، في الرابع عشر من مارس. مليون ونصف المليون في كلّ ساحة، على ذمة وسائل الإعلام والقيمين عليها.
القتل «البسيط»
ظلّت الأمور محصورة بكباش الساحات منذ اغتيال الحريري حتى بدء الانتخابات النيابية، التي أوصلت الى البرلمان اللبناني كتلاً تمثل الطوائف الأساسية. وجاء اغتيال الصحافي والقيادي في «حركة اليسار الديموقراطي» سمير قصير، في الثاني من يونيو من العام 2005، ليؤشر الى ان المعركة على وشك البدء لا على وشك الانتهاء. إذ أن اغتيال صحافي وقيادي في حركة علمانية ناشئة، وتحديداً غير طائفية، أنذر بأنّ هناك لائحة لحذف مجموعة كاملة من المشهد العام، لا تقتصر على الوزراء والنواب والرؤساء الممثلين للطوائف. ثم جاء اغتيال الامين العام السابق للحزب الشيوعي جورج حاوي مكملاً لهذا الاستنتاج ومقوياً له. ولأن الشهيدين يساريان كانت جنازتاهما أقلّ زخماً بما لا يقاس من جنازة الحريري التي جمعت مئات الآلاف في 16فبراير 2005، إذ أنهما يمثلان الجيل اليساري القديم (حاوي وجيل الحركة الوطنية) والجيل اليساري الجديد (قصير اليساري الليبرالي)، وبالتالي لا يملكان قواعد شعبية بالثقل الطائفي للقوى الممثلة في البرلمان.
كانت فضيحة بالمعنى الشعبي، لان الجريمتين استهدفتا اثنين من الناشطين غير المحسوبين على أحد في الكتل الطائفية التي تمثل المشهد اللبناني الجديد، وكانا طليقي اللسان وقويي الشخصية ومؤثرين في دوائر التفكير اللبناني، المؤثرة على دوائر القرار الداخلي والخارجي. لكنّ أقلّ من خمسة آلاف خرجوا في كلّ من الجنازتين. أيّ أقلّ من ثلاثة في المئة ممن خرجوا لشكر سورية في الثامن من مارس من العام 2005 أو لطرد سورية في الرابع عشر منه. رغم أنّ الاغتيالين أكثر خطورة من وجود عسكري سوري يجب طرده.
التخدير الموضعي
كأنّ اللبنانيين بدأوا، منذ الثاني من يونيو، في الكفّ عن الشارع، أي عن التعبير العلني والعام والمشترك عما يجول في خواطرهم. أو ربما كان اغتيال قصير وحاوي مثل صفعة خفيفة على الظهر بعد معركة دامية استلزمت الكثير من البنج ومواد التخدير لتفادي الموت أو الغيبوبة. على الأرجح أنه تبين، منذ ذلك الحين، أن الشارع ليس هو من يقرر، ولا كمية الغاضبين أو حجم غضبهم. لذا تراجع الزخم الشعبي، من الجانبين، وباتت الاغتيالات محطة منتظرة من اللبنانيين، ينتظرونها إذا تأخرت، ويتندرون بانتظارهم هذا في نكات مثل: «أين ستذهب اليوم؟ ... سأذهب لأشاهد الانفجار في وسط بيروت». هكذا تراجع الشارع من الواجهة، ودخل العالم الى لبنان من الباب العريض، بدءاً من القرارات الدولية وصولاً الى القوات الدولية المعززة والمعدّلة وراثياً في الجنوب بعد حرب يوليو في صيف العام 2006. الادانات لكن الادانات لم تتوقف، داخلياً وخارجياً، وصارت مدبجة وجاهزة، البيان نفسه وكميات ثابتة من الاستنكار والادانة والشجب والأسف. وباتت التحليلات تتقاطع عند القول ان اعداء لبنان هم المنفذون، وما عاد هناك فائدة في دراسة معنى الاغتيال او الانفجار او توقيته أو سبل الردّ عليه ومواجهته. هذا لأن المواجهة باتت مفتوحة، والأطراف باتوا أكثر وضوحاً، والشارع استكمل انقسامه العامودي والأفقي.
وازداد هذا الركود الشعبي ركوداً بعد استئناف مسلسل القتل باغتيال النائب جبران تويني، رئيس تحرير جريدة «النهار» البيروتية، والوزير بيار الجميل، قائد نهضة حزب الكتائب بعد كف يد «المرحلة السورية» الممثلة بالوزير السابق كريم بقرادوني. بقي من الزخم الشعبي والسياسي والاعلامي الادانات فقط. الشيء الوحيد الذي لا يكلف طاقة جسدية واستنفاراً نفسياً. ربما لأن الاستنفار وصل الى ذروته، كما فعل التحريض. ما عاد في الامكان التحريض أكثر مما كان، وما عاد واردا جر الملايين الى الشارع باغتيالات «صغيرة» لنائب أو وزير.
بات الجرح اللبناني في حاجة الى اغتيال عملاق، من وزن رئيس كتلة نيابية أو قائد طائفة كبيرة... الكرباج ثم كانت ضربات الكرباج النفسي في التفجيرات الليلة المتنقلة في القسم الشرقي من بيروت، التي ألحقت بقنابل توزعت على التقاطعات في بيروت الكبرى. كأن المنفذين كانوا يوصلون الى اللبنانيين رسالة مفادها انه اذا لم نقتل قيادياً فسنفجر شارعاً واذا لم نفجر شارعاً سنرمي قنبلة على جانب طريق واذا لم نفعل فسنطلق شائعة عن وجود قنبلة هنا أو هناك. هكذا تعود اللبنانيون ضربات الكرباج الأمني، وما عاد شيء قادر على استثارة دهشتهم، وإن توسعت الدائرة من العاملين في السياسة بشقوقها الاعلامية والنيابية والوزارية، أو حتى المناصرة فقط (تفجيرات الأسواق والأحياء المعادية لسورية)، وصارت تضمّ الجيش وقوى الأمن، واخيراً البعثات الديبلوماسية (موكب السفارة الأميركية) بعد استهداف القوات الدولية في الجنوب.
لا شيء جديدا
يمكن القول ان الانفجارات باتت جزءاً من حياتنا اليومية، وكثيرون باتوا يرددون، على سبيل الاستهزاء، أنّهم «يشتاقون» أحيانا الى التفجيرات، ويشعرون بأنّ شيئاً من الحماسة والاستنفار الممزوج بهرمون «الأدرينالين»، يفتقدونه كلما تأخّر المفجرون في ضرب الهدف التالي على لوائحهم. «الأدرينالين» الذي يوزعه الجسد من مكان ما في الرأس الى أعضاء الجسد الاخرى حين يحدس العقل بخطر، فتتسارع دقات القلب كما لو في مدينة ألعاب خطرة، لكن لثوان قليلة فقط لا تؤدي الى ردّة فعل سياسية أو عقلية، بل تقصّر ردّة الفعل على لحظة الحدث فقط.
هذا لأن الأحداث الأمنية تحولت من تفجيرات وقنابل واطلاق نار ومناوشات بين القوى الامنية وعصابات مسلحة، إلى صور تعبر في رؤوسنا من دون ان تترك انطباعاً بالدهشة، لأنها déja vu، أي أن المخّ لا يعيرها انتباهاً كثيراً كونها مكررة، وكونه يحمل منها الكثير الكثير. ليست الصور وحدها المكررة، بل تعليقات المراسلين أيضاً: «نيران شديدة تنبعث من المكان» و «يارات الاطفاء تحاول محاصرة النيران» و «لمعلومات الاولية تفيد عن سقوط جرحى» و«قوى الامن ضربت طوقاً امنياً حول المكان» و«الاجهزة المعنية باشرت التحقيقات فوراً»، «و«وفد من نواب الكتلة الفلانية جال على المكان» ....
خسارة الخوف
الأرجح أن الخوف تبدّل شكله. اذ ما عاد اللبنانيون يخافون الخروج من منازلهم، بل صار الخوف استراتيجياً، له علاقة بقرار البقاء في لبنان أو الهجرة منه. لم يعد الخوف قريباً ويمكن ازالته بتطمين من هذا السياسي بأن القتلة سيعاقبون، أو من ذاك السياسي بأن الوضع سيتغير قريباً وسنعود الى البحبوحة. صار الخوف قراراً مصيرياً، أي أنه توقف عن كونه خوفاً فقط، مع دقات قلب قوية وعيون مفتوحة وأيدي مرتجفة. صار أقرب الى الحزن والوداع والبحث عن طائرة. خسر اللبنانيون خوفهم، بعدما خسروا فرحهم وسهراتهم وعيد عشقهم ورئيسهم ونواب لهم ووزراء، وبعدما خسروا إمكانيات تطوير اقتصادهم وتحسين ظروف عيشهم. خسروا حتى خوفهم، الذي كان يدفعهم الى الشارع، رافضين وصارخين ومهدّدين ومطالبين، فخرجوا من الشارع، أو ربما قاطعوه وما عاد سهلاً إعادتهم الى الشارع، كما طلب منهم ذات يوم صحافيّ تحول الى ذكرى وتمثال وحديقة في وسط بيروت.