بينما يعربد اليهود على أرض فلسطين ويعلنون بكل استكبار أن القدس عاصمتهم ويشرعون في هدم المسجد الأقصى المبارك... عقدت القمة العربية في مدينة سرت الليبية في الأسبوع الأخير من شهر مارس، وقد دعي للقمة أطراف غير عربية منها رئيس الوزراء التركي والأمين العام للأمم المتحدة.
وتقدم رجب طيب أردوغان لإلقاء كلمته في افتتاح القمة، وقد سبقته مواقف كبيرة وعظيمة في تأييده للقضية الفلسطينية قلبت الموقف التركي رأساً على عقب من القضية الفلسطينية، وكان أشهرها مواقفه أثناء العدوان الصهيوني الهمجي الوحشي على غزة، وموقفه الأشهر عندما رفض مصافحة رئيس دولة الاحتلال بيريز في مؤتمر «دافوس» واعترض عليه بشدة، وترك المؤتمر ضارباً عرض الحائط بالأعراف الديبلوماسية، في الوقت الذي كان بجانبه عمرو موسى «أمين عام الجامعة العربية» ساكتاً صامتاً كأن الأمر لا علاقة به وهو رمز العرب.
وفي قمة العرب بسرت وقف أردوغان بكل قوة يعلن للعالم أجمع أن وزراء إسرائيليين أعلنوا أن «القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل»، مضيفاً: «هذا جنون، وهذا لا يلزمنا إطلاقاً». وقال: إن «القدس هي قرة عين كل العالم الإسلامي (...) ولا يمكن قبول اعتداء إسرائيل على القدس والأماكن الإسلامية». وتابع: «إنشاء 1600 وحدة سكنية في القدس ليس أمراً مقبولاً وليس له أي مبرر»، معتبراً أن «انتهاكات إسرائيل في القدس لا تتلاءم مع القانون الدولي ولا مع القانون الإنساني (...) وهي لا تنتهك القانون الدولي فقط ولكن التاريخ أيضاً».
وأكد رئيس الوزراء التركي، وسط قمة العرب الذي اعتقد أن الكلمات أحرجتهم فقاطعوا الرجل بالتصفيق أكثر من مرة في قاعة واغادوغو حيث عقدت القمة، أن: «احتراق القدس يعني احتراق فلسطين، واحتراق فلسطين يعني احتراق الشرق الأوسط».
أي قوة وأي شجاعة سياسية تلك من رجل تركي يحكم تركيا العلمانية التي يحكمها العسكر أصحاب العلاقات القوية مع العدو الصهيوني، والعلاقات الأقوى مع أميركا والغرب. الرجل أردوغان يتكلم وهو يعلم أنه يضع مستقبله ومستقبل حزبه وحكومته في مغامرة سياسية، ولكنه يتكلم بثقة لأنه مسلم تجرد من عصبية الانتماء إلى تركيته ولم يلتفت إلى عروبة المؤتمر ولا موقف العرب الضعيف، ولم يلتفت أيضاً إلى رد فعل أميركا ولا الصهاينة، التفت فقط إلى أنه مسلم والقدس تعني له الكثير، والأقصى هو أولى القبلتين، وهو مسجد المسلمين المقدس، وإليه كان الإسراء ومنه كان المعراج. فهو ثالث المساجد المقدسة لدى المسلمين وإليه تُشد الرحال، وهو مغتصب أسير، فانطلقت كلماته بكل قوة تهدد العالم بأن احتراق القدس يعني احتراق الشرق الأوسط كله، بما يعني أن احتراق القدس يعني احتراق كل ملفات المصالح الغربية في الشرق الأوسط، وتحول الشرق الأوسط من أنظمة لها مصالحها مع الغرب إلى منطقة معادية بسبب تواطؤ الغرب مع اليهود في حرق وتضييع مقدسات المسلمين.
الحقيقة أن ظهور أردوغان بمواقفه القوية في ظل حالة الضعف والتفرق العربي تعيد إلى الذاكرة ظهور عثمان بن أرطغل مؤسس الدولة العثمانية وأول سلاطينها الذي شهد عام مولده غزو هولاكو لبغداد وسقوطها وسقوط الخلافة العباسية. فهل يعيد التاريخ نفسه وتظهر من جديد حالة إحياء للأمة الإسلامية على يد شخصيات مسلمة تركية بعد سقوط بغداد على يد الأميركيين، وسقوط العرب في دوامة الضعف والتفرق والمصالح الخاصة.
المسلمون في كل أنحاء العالم صفقوا للطيب أردوغان، ورغم أن القمة انعقدت وانفضت وكأنها لم تكن لكن بقيت في ذاكرة الأمة كلمات رجل مسلم من الأناضول أعطى لهم الأمل أن هذه الأمة لن تموت مهما كان ضعفها، وأن حياة وموت هذه الأمة ليس مرتبطاً بالعرب مطلقاً، وهذا من عظمة الإسلام الذي جعل الناس سواسية.
وأخيراً، خير الكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال في خطبة الوداع: «يا أيها الناس... ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى. إن أكرمكم عند الله أتقاكم؛ ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فليبلغ الشاهد الغائب».
فمليار وثلاثمئة مليون تحية وسلام للطيب أردوغان.
ممدوح إسماعيل
محام وكاتب
[email protected]