التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في القدس مع رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، ورئيس قبرص نيكوس خريستودوليدس، في قمة ثلاثية بين إسرائيل واليونان وقبرص. يأتي هذا الإجتماع في وقت تُعيد فيه إسرائيل تقييم موقفها الإقليمي تحسباً لمواجهة أوسع محتملة مع إيران، وسط تصاعد التهديدات الصاروخية، وتغير موازين القوى في سورية، وتجدد الضغوط الدبلوماسية على غزة. بالنسبة إلى إسرائيل، تُقدّم القمة العديد من الفوائد الإستراتيجية الفورية. فهي تُعزّز الغطاء الديبلوماسي عبر دولتين عضوتين في الإتحاد الأوروبي، وتُوسّع نطاق قدرات إسرائيل الأمنية والاستخباراتية غرباً إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، وتُقوّي التنسيق في مجال رصد الصواريخ والإنذار المبكر في حال نشوب حرب ضد إيران، وتُرسّخ تحالفاً إقليمياً يُعقّد التخطيط العملياتي للخصوم.
يُعدّ التوقيت بالغ الأهمية أيضاً، إذ تسبق قمة القدس زيارة نتنياهو إلى واشنطن للقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو لقاءٌ يقول مسؤولون إسرائيليون إنه جاء بناءً على طلبٍ مُحددٍ من رئيس الوزراء. ومن المتوقع أن تتصدر إيران جدول الأعمال، لكنها لن تكون القضية الوحيدة. فقد برزت تركيا كثاني أخطر تحدٍ إستراتيجي لإسرائيل بعد إيران، لا سيما مع توسع نفوذها في سورية بعد الحرب. وينظر المسؤولون الإسرائيليون في شكلٍ متزايدٍ إلى دور أنقرة هناك كعقبةٍ أمام جهود نتنياهو لفرض الشروط الأمنية الإسرائيلية على النظام السوري المُستقبلي.
ويُعقّد النفوذ التركي المُتنامي في بلاد الشام حسابات إسرائيل الإستراتيجية بطرقٍ لا تُعقّدها إيران. فعلى عكس طهران، لا تعمل أنقرة من خلال الإنتشار عبر الحلفاء أو الضغط الصاروخي العلني، بل من خلال الترسخ السياسي والوجود العسكري والسيطرة على الأرض. ومع توطيد القوات المدعومة من تركيا لنفوذها في شمال سورية، وتعميق أنقرة لدورها كوسيطٍ للقوة، تتضاءل قدرة إسرائيل على فرض ترتيباتٍ أمنيةٍ أحادية الجانب في المجال الجوي السوري والمناطق الحدودية في شكلٍ متزايد. ويُثير الوجود التركي مخاطرَ فضّ النزاعات، ويفرض قيوداً ديبلوماسية، ويُنذر باحتمالية حدوث إحتكاك مع تل أبيب، التي ما زالت مترددة في مواجهة أنقرة في شكل مباشر. من وجهة نظر إسرائيل، يُضيّق التوسع التركي نطاق الحرية العملياتية، بينما يُعيد تشكيل النظام ما بعد الحرب في سورية بطرق لا يستطيع نتنياهو فرضها. هذا يجعل تركيا ليست مجرد تحدٍ ثانوي، بل مُعرقِلاً هيكلياً يجب على إسرائيل موازنة نفوذها في أمكنة أخرى، بما في ذلك من خلال تعميق تحالفها مع اليونان وقبرص.
كما سيحتل قطاع غزة مكانة بارزة في واشنطن. فقد أصرّت إدارة ترامب على إشراك تركيا في القوات متعددة الجنسية التي سيتم نشرها خلال المرحلة الثانية المحتملة لوقف النار في غزة، وهي مرحلة وصفها الرئيس الأميركي مراراً وتكراراً بأنها محورية في أجندته الإقليمية. بالنسبة إلى إسرائيل، يُعدّ التدخل التركي إشكالياً للغاية، ليس فقط بسبب موقف أنقرة من «حماس»، بل لأنه سيُرسّخ النفوذ التركي بالقرب من مسرحي العمليات الأمنية الجنوبي والشمالي لإسرائيل في الوقت عينه.
في جوهرها، تُعزّز القمة تحالفاً مستقراً في شرق المتوسط في وقت يشهد تقلبات إقليمية حادة. تشكل إسرائيل واليونان وقبرص تحالفاً ثلاثياً يربط بلاد الشام بالجناح الجنوبي الشرقي للإتحاد الأوروبي. ومع إستمرار الحروب في غزة وأوكرانيا، وتفاقم عدم الإستقرار في لبنان، وتصاعد التوترات مع إيران، يمثل هذا المحور نقطة إستقرار نادرة. بالنسبة إلى اليونان وقبرص، تربطهما هذه الشراكة بفاعل أمني إقليمي ذي قدرات عسكرية مثبتة، بدلاً من الإعتماد على ضمانات أوروبية مجردة.
كما يحمل الاجتماع بُعداً أمنياً وردعياً واضحاً. فرغم أن اليونان وقبرص ليستا متورطتين في شكل مباشر في حروب إسرائيل، إلا أنهما معرضتان لمخاطر تداعياتها، بما في ذلك التهديدات الصاروخية والطائرات المسيّرة، وإنعدام الأمن البحري، ونقاط الضعف التي تؤثر على البنية التحتية للطاقة البحرية. ويتيح التنسيق الثلاثي المنتظم تبادل المعلومات الإستخباراتية، وتجنب الإشتباكات الجوية والبحرية، والتخطيط للطوارئ في شرق المتوسط. عملياً، يعزز هذا التعاون في مجالات المراقبة والإنذار المبكر وحماية خطوط الملاحة البحرية والأصول الحيوية.
يبقى ملف الطاقة ركناً أساسياً، وإن كان أقل بروزاً، في هذه العلاقة. فبينما تعثرت مشاريع رئيسية مثل خط أنابيب شرق المتوسط، إلا أن المنطق الإستراتيجي الكامن وراءها ما زال قائماً. وتُعتبر اليونان وقبرص بوابتين محتملتين لغاز شرق المتوسط إلى أوروبا، في حين أن إسرائيل منتجةٌ ذات طموحات تصديرية طويلة الأمد. ومع استمرار أوروبا في إعادة توجيه تركيزها بعيداً عن إمدادات الطاقة الروسية، وتأكيد التوافق السياسي حول مسارات الطاقة المستقبلية، يكتسب التعاون في مجال الغاز الطبيعي المسال وأمن البنية التحتية أهمية إستراتيجية، حتى في غياب إعلانات فورية عن مشاريع.
كما تُرسل القمة إشارةً ضمنيةً إلى تركيا، دون تسميتها صراحةً. لطالما شكّل نموذج إسرائيل – اليونان - قبرص ثقلاً موازناً للتوسع التركي في شرق المتوسط. على الصعيد الإقليمي، بالنسبة إلى إسرائيل، فإنها تسعى إلى الحفاظ على علاقات قوية مع أثينا ونيقوسيا ذات عمق إستراتيجي في حال استمرار عدم استقرار العلاقات مع أنقرة. أما بالنسبة إلى اليونان وقبرص، فإن مشاركة إسرائيل تُعزز موقفهما الإقليمي الرادع.
يُضيف التوقيت بُعداً آخر من الأهمية. فمع تعرض إسرائيل لضغوط ديبلوماسية متواصلة في شأن غزة، تُؤكد القمة أنها ليست معزولة إقليمياً، وأنها ما زالت تتمتع بشراكات مُنظمة مع دول الإتحاد الأوروبي. بالنسبة إلى أثينا ونيقوسيا، يُتيح لهما التواصل مع إسرائيل على مستوى القيادة تحقيق التوازن بين الحساسيات الداخلية والمصالح الأمنية الأساسية، مع الحفاظ على النفوذ من خلال الحوار بدلاً من التباعد.
وراء هذه الأبعاد الظاهرة، يكمن عامل أقل نقاشاً، ولكنه ربما الأكثر أهمية: الاستعدادات لمواجهة مُحتملة في المستقبل بين إسرائيل وإيران. يُعالج تعميق التعاون الأمني مع اليونان وقبرص في شكل مباشر ثغرة عملياتية كُشِف عنها خلال المواجهة الأخيرة التي استمرت 12 يوماً بين إسرائيل ومعها الولايات المتحدة وإيران. أظهرت تلك المواجهة قدرات إسرائيل في مجال اعتراض الصواريخ، ولكنها كشفت أيضاً عن حدودها وضعفها. لم يتم اعتراض جميع الصواريخ الإيرانية، لا سيما في المرحلة الأخيرة من المواجهة. عدّلت إيران تكتيكاتها في منتصف الصراع، فزادت من كثافة قصفها، ونوّعت مسارات صواريخها، ووزّعت مواقع إطلاقها. وقد أُرهقت أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي الإسرائيلية بسبب كثافة القصف واستمراريته وتوقيته، وتفوقها التكنولوجي.
وبعيداً عن الدروس التكتيكية المباشرة، كشفت المواجهة أيضاً كيف تُكيّف إيران عقيدتها الصاروخية إستجابةً للدفاعات الإسرائيلية والأميركية. لم تعد طهران تختبر قدرتها على إختراق الدروع الصاروخية، بل مدى سرعة إرهاقها بكثافة القصف. فالوابل المختلط الذي يجمع بين الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز والطائرات المسيّرة، وتوقيت الإطلاق المتفاوت، ومواقع الإطلاق المتباعدة، مصممة ليس لإرباك الدفاعات فوراً، بل لاستنزافها تدريجياً. الهدف هو الضغط التراكمي لا الاختراق الحاسم: رفع تكاليف الاعتراض، وزيادة احتمالية التسريب، وتقويض الثقة السياسية من خلال الاستمرارية. هذا التطور يُفسّر لماذا أصبح العمق الدفاعي أهم من مجرد القدرة على الإعتراض. بالنسبة إلى إسرائيل، لا يُعدّ توسيع نطاق الإنذار المبكر والتتبع غرباً من خلال التعاون مع اليونان وقبرص ترفاً تقنياً، بل هو رد فعل على خصمٍ بات يعتمد في معركته على عامل الوقت والهندسة والقدرة على التحمل بدلاً من الدقة وحدها.
لم يكن الدرس المستفاد للمخططين الإسرائيليين هو فشل الدفاع الصاروخي، بل محدودية عمق الدفاع جغرافياً. فالدفاع الصاروخي لا يتعلق بالكمال، بل بمعدلات التسرب. حتى نسبة ضئيلة من الصواريخ التي تخترق الدفاعات قد تُكبّد إسرائيل تكاليف استراتيجية وسياسية باهظة. يُحدّ من مدى الرادار وهندسة الإعتراض وعمق الإشتباك صغر مساحة إسرائيل وضيق رقعة جغرافيتها وكثافة سكانها. عملياً، يعني هذا أن التهديدات غالباً ما تُكتشف متأخراً، وتُعترض بالقرب من الأراضي الإسرائيلية، وتُعطى الأولوية تحت ضغط شديد. ينجح هذا النهج في مواجهة الهجمات المحدودة، لكنه يصبح خطيراً في ظلّ تكثيف مستمر يشمل الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز والطائرات المسيّرة.
هنا تبرز الأهمية العسكرية لليونان وقبرص. فمن الناحية الجغرافية، تُوسّعان عمق الدفاع الإسرائيلي غرباً إلى شرق البحر الأبيض المتوسط. من منظور عسكري إستخباراتي، يتيح التعاون مع أثينا ونيقوسيا الكشف المبكر عن إطلاق الصواريخ، وتوسيع نطاق تغطية الرادار، وتحسين تتبع وتوجيه أنظمة الإعتراض، بالإضافة إلى هندسة اعتراض أكثر ملاءمة، مما يسمح بالتصدي للتهديدات في مراحل مبكرة من طيرانها. حتى بدون نشر صواريخ اعتراضية خارج الأراضي الإسرائيلية، فإن تبادل بيانات المستشعرات، وتكامل الرادار، والإنذار المبكر تُحسّن في شكل ملحوظ من الفعالية الدفاعية.
إن إمكان دمج أصول الاعتراض في قبرص أو اليونان تُعدّ تحولاً إستراتيجياً، حتى وإن لم يُعلن عنها علناً. على مستوى ما، يشمل ذلك دمج المستشعرات من خلال الرادار المشترك، وتوجيه الأقمار الصناعية، ودمج المعلومات الإستخباراتية، وهو الشكل الأقل وضوحاً والأكثر قبولاً سياسياً للتعاون. على مستوىً آخر، قد يشمل ذلك قابلية التشغيل البيني بين الأنظمة الإسرائيلية والأصول اليونانية أو القبرصية، لا سيما في حال وجود أنظمة متوافقة مع حلف الناتو. في أدق تفاصيلها، يسمح الاعتراض الاستباقي بالتصدي للتهديدات في مراحل مبكرة من طيرانها، مما يُخفف الضغط في شكل كبير على الدفاعات الإسرائيلية. وسواء نُشرت هذه القدرات علناً أم لا، فإن منطق التخطيط موجود بالفعل.
هذا الأمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى إيران تحديداً نظراً لأسلوب طهران في القتال. تُعطي عقيدة الصواريخ الإيرانية الأولوية للإستدامة على الدقة، والتغطية على عنصر المفاجأة، والضغط النفسي والسياسي على غزو ساحة المعركة. في المقابل، تعتمد إستراتيجية إسرائيل على الإعتراض، والمرونة، والتحكم في التصعيد. ومن خلال توسيع نطاق بنيتها الدفاعية غرباً عبر التعاون مع اليونان وقبرص، تُقلل إسرائيل من قدرة إيران. يهدف هذا النهج إلى إضعاف الدفاعات، وزيادة حالة عدم اليقين لدى المخططين الإيرانيين، ورفع تكلفة الحملات الصاروخية المستمرة، والحفاظ على هامش المناورة السياسية في صراع طويل الأمد. لا يهدف هذا النهج إلى زيادة إحتمالية نشوب حرب، بل إلى تقليل فعاليتها بالنسبة إلى إيران وتقليص الضرر على إسرائيل.
ويُفسر هذا المنطق أيضاً سبب مناقشة هذا البُعد من التعاون سراً بدلاً من مناقشته علناً. فاليونان وقبرص عضوان في الاتحاد الأوروبي، وتستضيف قبرص منشآت سيادية وبريطانية حساسة، ومن شأن طرح التعاون في مجال الدفاع الصاروخي ضد إيران علناً أن يُثير ردود فعل ديبلوماسية عنيفة وتصعيداً. لذا، تبقى اللغة المستخدمة عامة عمداً، وتشير إلى الأمن الإقليمي، وحماية البنية التحتية للطاقة، والتعاون في مجال الإنذار المبكر. ومع ذلك، يُدرك المخططون العسكريون الأساس المنطقي الكامن وراء هذا النهج.
ومن هذا المنطلق، كان الهدف من قمة القدس هو ترسيخ العمق الإستراتيجي، وتعزيز القدرة الدفاعية، وتحقيق التوافق الإقليمي تحسباً لمرحلة أكثر خطورة من الصراع قد تلوح في الأفق.