سافر إلى ذاتك

سنة جديدة وتحارب جديد

24 ديسمبر 2025 10:00 م

ليست السنة الجديدة صفحة بيضاء كما نحب أن نُقنع أنفسنا، بل هي ساحة أوسع نعود إليها ونحن نحمل معنا كل ما لم يُحل، كل ما كُبت، وكل ما أُجِّل بحجة «بعد العيد» أو «مع بداية السنة». من منظور نفسي، لا يبدأ الصراع مع الزمن، بل مع الذات التي تغيّرت ولم نعترف بتغيّرها. نحن لا نحارب أحداثاً جديدة بقدر ما نواجه نسخاً قديمة منّا لم تعد تصلح للمرحلة المقبلة.

العقل البشري بطبيعته لا يحب التحوّل المفاجئ. هو مبرمج على الأمان، حتى لو كان هذا الأمان مؤلماً. لذلك، مع كل سنة جديدة، يستيقظ داخلنا صراع خفي بين رغبتين: رغبة في النمو ورغبة في البقاء كما نحن. هذه هي المعركة الحقيقية. ليست مع الآخرين، ولا مع الظروف، بل مع أنماط نفسية تشكّلت عبر سنوات من التجارب، والخوف، والتعلّق، والخذلان.

نحن نحارب فكرة التخلي أكثر مما نحارب الواقع. التخلي عن نسخة كانت تنجو بالصمت، عن شخصية كانت ترضي الجميع، عن معتقدات زرعت فينا أن الألم دليل قوة، وأن التحمل فضيلة مطلقة. في العلاج النفسي نرى بوضوح أن أغلب مقاومة التغيير لا تأتي من الكسل أو الضعف، بل من الخوف العميق من المجهول. الدماغ يفضّل الألم المألوف على راحة غير مضمونة.

السنة الجديدة تُحرّك ما يسمى نفسياً بـ»قلق الانتقال»، وهو قلق طبيعي يظهر عند أي انتقال زمني أو نفسي كبير. لكنه يتحول إلى حرب داخلية عندما نصرّ على الدخول بوعينا القديم وأدواتنا المستهلكة. هنا تبدأ المعارك: قرارات مؤجلة، علاقات مُنهكة، أهداف لا تشبهنا، وشعور داخلي بأننا متأخرون عن أنفسنا.

لكن التحارب ليس دائماً سلبياً. بعض الحروب النفسية ضرورية. هناك معارك نخوضها لنستعيد سيادتنا الداخلية، لنضع حدوداً، لنقول «لا» دون شعور بالذنب، ولنختار أنفسنا دون الحاجة لتبرير. النمو لا يحدث في مناطق الراحة، بل في لحظات المواجهة الصادقة مع الذات.

السنة الجديدة لا تطلب منك أن تكون مثالياً، بل أن تكون واعياً. أن تدخلها وأنت تعرف ما الذي لم يعد يناسبك، وما الذي حان وقت إنهائه. السلام النفسي لا يأتي من تجنب الصراع، بل من خوض الصراع الصحيح. المعركة التي تستحق أن تُخاض هي تلك التي تعيدك إلى نفسك، لا التي تستنزفك لإثبات شيء للآخرين.

في النهاية، ليست كل سنة جديدة بداية... بعض السنوات تكون نهاية ضرورية. نهاية نمط، نهاية دور، نهاية قصة لم تعد تعبّر عنك. ومن الشجاعة النفسية أن نعترف أن بعض الحروب لا ننتصر فيها إلا عندما ننسحب بوعي، ونختار طريقاً أكثر صدقاً مع ذواتنا.