غزة ولحظة فقدان إسرائيل للمبادرة... واشنطن تسيطر على المرحلة الثانية

9 ديسمبر 2025 10:00 م

- إسرائيل تواجه فقدان قدرتها على فرض الخطوط الحمر في ضوء نظام إقليمي يصنع في واشنطن ويفرض عليها بالإكراه

لم تعد الولايات المتحدة تسعى لتحقيق نتائج حاسمة في ساحة المعركة، بل تطبق إستراتيجية تسلسلية تُؤجل فيها التصعيد، وتُجمّد الصراعات، وتُعطى الأولوية للأطر الاقتصادية والسياسية. أما إسرائيل، التي تعودت منذ زمن طويل على صنع الأحداث من خلال المبادرة العسكرية، تجد نفسها الآن مُقيّدة في شكل متزايد. وكما كان متوقعاً على نطاق واسع، لم تمتثل تل أبيب لاتفاق وقف النار أو أحكامه.

من بين الانتهاكات المبكرة والأكثر تأثيراً التي تمارسها إسرائيل مسألة وصول المساعدات الإنسانية. فقد نصّ الاتفاق على دخول 600 شاحنة مساعدات إنسانية يومياً إلى غزة. في الواقع، سمحت تل أبيب بأقل من 220 شاحنة يومياً، على الرغم من أن غزة تحتاج إلى آلاف الشاحنات في اليوم لمواجهة عواقب حرب مطولة وأشهر من التجويع القسري الناتج عن السياسة الإسرائيلية.

في هذا الوقت، يقترب ملف الأسرى من نهايته. من بين 255 أسيراً إسرائيلياً تم أسرهم في 7 أكتوبر، لم يبق سوى واحد في عداد المفقودين. وقد تم تحديد مكان جميع الآخرين، إما أحياءً أو عادوا أمواتاً، وفقاً للمادة الأولى من الاتفاق.

وقد ثبت أن تحديد مكان المجموعة الأخيرة من الأسرى الإسرائيليين أمر صعب للغاية بسبب القصف الإسرائيلي العشوائي لغزة، والتدمير واسع النطاق وهدم المنازل الفلسطينية، والإغراق المتعمد لأنفاق «حماس» بالإسمنت، حيث يُعتقد أن العديد من الأسرى كانوا محتجزين.

وعلى الرغم من اكتمال هذا الالتزام المركزي تقريباً، لم يتم نشر أي قوة استقرار متعددة الجنسية في غزة، على عكس ما كان متصوراً في المرحلة الثانية من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي أنهت ما يقارب عامين من الحرب على القطاع.

ومازال أكثر من مليوني فلسطيني محصورين في نحو 40 في المئة من إجمالي مساحة غزة البالغة 360 كيلومتراً مربعاً. يقتصر وجود هؤلاء السكان على مناطق حددتها إسرائيل - وتوسعها تدريجياً - كـ«خط أصفر آمن»، ريثما يتم تنفيذ الخطة وإعادة انتشار إسرائيل إلى خط ثانوي من شأنه أن يُضفي طابعاً رسمياً على المنطقة العازلة الدائمة.

أوضح رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير، أن هذا «الخط الأصفر» ليس ترتيباً موقتاً. ووصفه بأنه «موقف دفاعي وهجومي»، ما يشير إلى نية إسرائيل الاحتفاظ به كحدود فعلية جديدة لغزة، من دون انسحاب وشيك.

في غضون ذلك، يزعم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن المرحلة الثانية من الاتفاق «قريبة جداً»، بينما يشترط في الوقت عينه تنفيذها باستعادة وتسليم آخر أسير إسرائيلي، والذي مازال يُعتقد أنه مفقود تحت أنقاض غزة.

وأشار نتنياهو إلى أن المرحلة الثانية ستُناقش مع الرئيس ترامب خلال اجتماع متوقع في الأسبوع الأخير من ديسمبر. ومع ذلك، يبقى موقف إسرائيل دون تغيير: الانسحاب ليس خياراً قبل نزع سلاح «حماس» بالكامل، وهي مهمة تتصور إسرائيل أن يقوم بها تحالف دولي حديث التشكيل. في حين أن الحركة ترفض هذا التسلسل رفضاً قاطعاً. وتصر على أنه يجب على إسرائيل أولاً الانسحاب إلى - وما وراء - المنطقة العازلة والخط الأصفر قبل المضي قدماً في أي خطوات أخرى. وتؤكد أنه لا يمكن نقل الأسلحة إلا إلى مجلس وطني فلسطيني مستقبلي لم يتم انشاؤه بعد، وأن إعادة إعمار غزة على نطاق واسع شرط أساسي غير قابل للتفاوض.

إعادة الإعمار

أصبحت إعادة الإعمار نفسها نقطة شلل أخرى في خطة ترامب، بسبب التفسيرات المتباينة في شكل حاد بين الأطراف المعنية. إذ أعلنت الولايات المتحدة، عبر جاريد كوشنر، أن إعادة الإعمار ستبدأ في مناطق غزة الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، مع توقع انتقال السكان فقط بمجرد انتهاء البناء في المنطقة الأولية.

رفضت «حماس» هذا النهج، وطالبت بإعادة إعمار قطاع غزة بأكمله. وفي الوقت عينه، مازال العديد من المانحين الدوليين غير راغبين في تمويل إعادة الإعمار في ظل غياب وقف نار دائم وواضح المعالم، وانسحاب إسرائيلي كامل، ووقف القصف الإسرائيلي.

حرية العمل العسكري

ومما يزيد من حدة الخلاف، سعي إسرائيل إلى ما تصفه بـ«حرية العمل العسكري» في غزة، على غرار موقفها في لبنان - أي الحق المحتفظ به في ضرب وقصف وتدمير الأهداف في أي وقت تراه ضرورياً في المستقبل. يصطدم هذا المطلب في شكل مباشر بإصرار «حماس» على السيادة وإعادة الإعمار وإنهاء الوجود العسكري الإسرائيلي في شكل نهائي.

ونتيجة لذلك، لم تعد المرحلة الثانية من وقف النار في غزة مسألة توقيت، بل مسألة عدم توافق هيكلي. فبينما تضغط واشنطن لدفع نتنياهو إلى التنفيذ، تعمل المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية الآن في ظل أزمة قيادة متفاقمة، وانهيار متزايد في الثقة برئيس الوزراء، وتوافق بارز بين هيئة الأركان العامة والولايات المتحدة لمصلحة المضي قدماً، موقتاً على الأقل.

في جوهره، يكمن خيارٌ ثنائي: إما أن يتجه نتنياهو مع التيار، كما تطالبه واشنطن وتؤيده هيئة الأركان العامة، وإما أن يحاول مقاومة الجميع دفعةً واحدة، مخاطراً بتجدد التصعيد في غزة ولبنان، وتسريع مساره السياسي اليميني المتطرف، الذي يتسم بالمواجهة الدائمة.

وترمز الزيارة المرتقبة للسفير الأميركي لدى الأمم المتحدة مايك والتز، إلى ذروة الضغوط الأميركية المتجددة. ووفقاً لمصادر إسرائيلية، فإنه يصل حاملاً رسالةً واضحةً من الرئيس ترامب: لقد حان الوقت للانتقال من القتال إلى الدبلوماسية.

ومن المتوقع أن يقدم لنتنياهو مجموعةً من المطالب غير القابلة للتفاوض: تسريع تنفيذ المرحلة الثانية؛ توسيع نطاق وصول المساعدات الإنسانية عبر معابر إضافية؛ وإعادة فتح معبر رفح في كلا الاتجاهين، وليس فقط للإجلاء الطبي.

هذه الرسالة، التي وُجّهت علناً داخل الدوائر السياسية والأمنية الإسرائيلية، واضحة. يجب أن تعمل رفح بكامل طاقتها، ويجب السماح لسكان غزة بالعودة إلى ديارهم، ويجب أن تتولى السلطة الفلسطينية دوراً رسمياً في غزة من خلال قوة شرطة مدربة تحت إشراف أميركي - أوروبي. عندما يُنقل هذا المطلب من مبعوث رفيع المستوى، فإنه يُمثل جهداً منسقاً لإجبار إسرائيل على تنفيذ الركائز الأساسية لخطة ترامب، على الرغم من مقاومة نتنياهو الأيديولوجية وقيود الائتلاف المحلي.

«نقطة تحوّل»

على هذا الصعيد، انضمت أوروبا إلى واشنطن والقاهرة، مؤيدةً تدريب قوات الشرطة الفلسطينية ومُشيرةً إلى استعدادها للإشراف على رفح من الجانب الفلسطيني في إطار دولي - عربي مشترك.

وبرز المزيد من الضغط من منتدى الدوحة، الذي وصفته مصادر مجلس الأمن القومي الإسرائيلي بأنه نقطة تحول. أوضحت قطر أنه لا يمكن التوصل إلى وقف نار حقيقي من دون انسحاب إسرائيلي كامل من غزة وعودة سكانها.

وذهبت تركيا إلى أبعد من ذلك، مُصرةً على أن نزع سلاح «حماس» لا يمكن أن يسبق نشر قوة شرطة فلسطينية مدربة في القطاع.

تتعارض هذه المواقف في شكل مباشر مع موقف نتنياهو الراسخ، والذي يضع نزع السلاح «حماس» كشرط مسبق لأي انسحاب أو عملية سياسية. الأهم من ذلك، أن واشنطن تبدو الآن أقرب إلى الموقف العربي - التركي منها إلى موقف نتنياهو.

داخل إسرائيل، أصبح التناقض الداخلي غير قابل للاستمرار. تحث القيادة العسكرية على الانتقال إلى المرحلة السياسية لإعادة بناء القوات المنهكة بعد قرابة عامين من الحرب، وتدعم هيئة الأركان العامة علناً الانحياز إلى واشنطن في الوقت الحالي.

تشير حسابات نتنياهو السياسية إلى الاتجاه المعاكس. فالحرب المستمرة تخدمه انتخابياً؛ بينما لا يخدمه خفض التصعيد. يكمن هذا التباين بين البقاء السياسي والمصلحة المؤسسية في قلب الشلل الحالي الذي تعيشه إسرائيل. بالنسبة إلى نتنياهو، فإن الانتقال إلى المرحلة السياسية هو تحديداً الخطر على مستقبله السياسي.

وتشير شخصيات أمنية إسرائيلية إلى أنه يرفض أي عودة للسلطة الفلسطينية لأنها تُشكل المسار الأكثر مباشرة نحو حل الدولتين، وهو ما يتعارض جوهرياً مع مبدأه الأيديولوجي.

في حين أن الحرب المطولة قد تخدم مصالح نتنياهو الانتخابية، إلا أنها تصطدم الآن في شكل مباشر بالأولويات الأميركية.

من وجهة نظر ترامب، الاستقرار وسيلة لتحقيق أهداف جيو-سياسية واقتصادية أوسع. النجاح في المرحلة الثانية سيسمح له بإحياء وتوسيع التطبيع الإقليمي، واستكمال ما تبقى من اتفاقيات إبراهيم، وتحقيق إنجاز إستراتيجي. لقد أصبحت خطة واشنطن الإقليمية أكثر وضوحاً: وقف نار طويل الأمد في غزة ولبنان وسوريا.

تتفق المصادر الإسرائيلية والأميركية الآن على استنتاج صارخ. لقد ضاقت مساحة مناورة نتنياهو في شكل حاد. تضغط واشنطن من أجل التنفيذ الفوري للمرحلة الثانية، بما في ذلك الانسحاب الإسرائيلي والانهاء الفعلي لمشاريع اليمين المتطرف المتمثلة في التطهير العرقي والاستيطان في غزة. لم يعد نتنياهو يحكم إستراتيجياً، بل يقاتل من أجل البقاء السياسي.

الخطر الذي تواجهه إسرائيل الآن ليس المواجهة مع واشنطن، بل التآكل الهادئ لاستقلاليتها في صنع القرار. كما يحذر العديد من المعلقين الإسرائيليين، تتحول إسرائيل من صانعة للنتائج الإقليمية إلى منفذة للقيود التي تُدار في واشنطن، متكيفة تكتيكياً مع المطالب الأميركية متخلية عن المبادرة الإستراتيجية طويلة المدى.

في شرق أوسط تحكمه الصفقات والحروب، لم يعد التحدي الرئيسي لإسرائيل هو التفوق العسكري، بل فقدان قدرتها على فرض الخطوط الحمر في ضوء نظام إقليمي يصنع في واشنطن ويفرض عليها بالإكراه.