بين رؤية أيديولوجية دينية عنصرية تدفع نحو «دولة يهودية واحدة من البحر إلى النهر»، ومسار عسكري يتعمّق في الضفة الغربية، ومؤشرات سياسية إسرائيلية وأميركية مرتبكة حول المفاوضات وإمكانية استئناف العملية السلمية عبر بوابة الإفراج عن القيادي في حركة «فتح» الأسير مروان البرغوثي، تتشكّل في إسرائيل ثلاث سرديات متصادمة تحدّد شكل المرحلة المقبلة.
فهل تتجه إسرائيل نحو المزيد من الحرب (ضرب حزب الله وإيران مجدداً والتصعيد؟ أم تتهيأ، لتستجيب لتوجيهات الرئيس الأميركي دونالد ترامب والإفراج عن البرغوثي، الذي اتفق مع كل الفصائل بما فيها «حماس» و«الجهاد» على «وثيقة الأسرى» كتوجه فلسطيني جامع وموحد، لاستئناف مسار سياسي قد يقود إلى تسوية؟
وتُظهر كل التحاليل الإسرائيلية أن تل أبيب تقف عند مفترق طرق معقد، تتشابك فيه الأبعاد الأمنية والأيديولوجية والسياسية، وتنعكس بصورة مباشرة على مستقبل المنطقة برمتها.
جدار الغور... ضم وتهجير ولا علاقة له بالأمن
وكشفت افتتاحية «هآرتس» اليوم الخميس، أن الجيش بدأ فعلياً، في الخفاء ومن دون إعلان رسمي، بناء جدار جديد في عمق غور الأردن، في ما تسميه الصحيفة «الخيط الثاني» على طول الحدود مع الأردن وفق الرؤية التوراتية.
وتشير إلى أن الجدار ليس مجرد مشروع هندسي، بل خطة إستراتيجية لإعادة رسم الجغرافيا والديموغرافيا في الضفة الغربية تحت غطاء «الأمن».
وتورد أن قائد المنطقة الوسطى، آفي بلوط، قدّم المشروع باعتباره وسيلة لمنع تهريب الأسلحة من الأردن وحماية المستوطنات. لكنه يؤكد في الوثيقة نفسها أن جميع المباني الواقعة على مسار الجدار «ستهدم»، لأنها تمثل «نقطة ضعف عملياتية».
وبحسب الصحيفة فإن ذلك يتضمن هدم المنازل الفلسطينية، تضييق القرى، تدمير البنية الزراعية، منع الحركة، ومصادرة الأراضي، ولكن هذه المرة عبر «جدار داخلي» يعزل الفلسطينيين عن أراضيهم في 45 ألف دونم إضافية، ويفتح المجال لتوسيع المستوطنات والبؤر الرعوية.
وترى أنّ هذه الخطوة ليست مجرد ضم فعلي، بل توجه نحو تهجير تدريجي ودفع الفلسطينيين إلى جيوب مغلقة، وهي سياسة «لا تحقق الأمن بل تخلق واقعاً قابلاً للانفجار في أي لحظة»، وتؤكد أن المؤسسة العسكرية في إسرائيل تتجه بوعي إستراتيجي نحو تكريس السيطرة الدائمة وليس نحو أي عملية سياسية.
الجيش يدفع نحو «دولة واحدة»
وأوضحت «هآرتس» في افتتاحيتها أن «الجيش، لم يعد يخفي مشروعه الحقيقي» وهو أن «إسرائيل واحدة من البحر إلى النهر... لا خط أخضر، لا حدود ولا احتلال».
ولفتت إلى حملة رسمية للجيش تشجع الجنود على زيارة البؤر الاستيطانية ومواقع أثرية داخل مناطق السلطة، وتروّج لهذه المناطق كمواقع «رومانسية» توراتية للخطوبة والزواج.
وأضافت أن «هذه الحملة ليست ترويجاً سياحياً، بل تربية جماعية على كل اليهود القبول بدولة واحدة يهودية تسيطر على الفلسطينيين بنظامين: مدني لليهود وعسكري للفلسطينيين».
وتنتقد المعسكر الليبرالي الإسرائيلي الذي «يتمسك بوهم الدولتين»، ويعيش بين خطاب السلام صباحاً، وخدمة أبنائه في المستوطنات مساءً، حيث ترى أن إسرائيل الرسمية والجيش يعكسان واقعاً جديداً، هو أن الدولة الواحدة بنظام «أبارتهايد».
وتخلص إلى أن المجتمع الليبرالي يخشى أكثر من أي شيء آخر سيناريو دولة واحدة متساوية، ويجد ربما للمرة الأولى نفسه مضطراً لمواجهة حقيقة أنه جزء من بنية الاحتلال وليس ضحية لها.
وأضافت الصحيفة أن «الجيش يعمل على الأرض لتصفية حل الدولتين، والسياسة الإسرائيلية الفعلية تتجه نحو نظام دائم، وليس تسوية موقتة، حيث نظر إلى الاستيطان الفعلي في الأراضي السورية واللبنانية والأردنية وهو ما يجري تعليمه لتلاميذ المدارس في تل أبيب ومستوطنة أرئيل شمال الضفة الغربية، إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات».
وخلصت إلى أنه «فيما يطالب العرب من المحيط إلى الخليج بتغير مناهج الدراسة لقبول الآخر- أي الإسرائيلي - يكرس الجيش والمستوطنين والحكومة منهاج القضاء على الآخر في أرض إسرائيل التاريخية».
البرغوثي
في المقابل، كتب آفي شيلون في صحيفة «يديعوت أحرونوت» افتتاحية مختلفة تماماً، دعا فيها صراحة إلى تحرير البرغوثي باعتباره «الزعيم الفلسطيني الوحيد القادر على توحيد الفلسطينيين وقيادتهم نحو تسوية».
ويشير شيلون إلى ثلاث نقاط أساسية، هي أن البرغوثي الوحيد الذي يحظى بثقة الشارع الفلسطيني في الضفة وغزة معاً.
وتابع أن البرغوثي هو الوحيد أيضاً القادر على أن يشكل بديلاً لـ «حماس» في غزة ويجتمع معها ويشترك معها، بوثيقة الأسرى على مشروع فلسطيني جامع، حيث كان ترامب أعلن أنه سيدرس الضغط على إسرائيل لإطلاقه.
ويرى شيلون أن إطلاق البرغوثي قد يكون المخرج السياسي الوحيد لإعادة إحياء المفاوضات، وأن إسرائيل إن كانت جادة في «إضعاف حماس، فليس أمامها إلا دعم قيادة فلسطينية موحدة وشرعية".
وذهب إلى أبعد من ذلك، متسائلاً «لماذا لا تبادر إسرائيل بنفسها لإطلاقه، قبل أن يجبرها الأميركيون؟ هذه الرؤية، رغم أنها لا تمثل الإجماع الإسرائيلي، تكشف أن جزءاً من المؤسسة الفكرية والسياسية يرى أن استمرار الجمود، والاعتماد على القوة وحدها، سيقود إسرائيل نحو مأزق داخلي وإقليمي».
الاتجاهات صعبة ومعقدة حرب أم سلام؟
وتتمثل المؤشرات المتجهة نحو الصدام في بناء جدار في غور الأردن ما يعني تثبيت فصل جغرافي - ضرب الوجود الفلسطيني وعزله عن عمقها في الضفة ويمنع أي انسحاب للجيش والمستوطنين مستقبلي.
وتعميق مشروع الدولة اليهودية الواحدة العسكرية، وهو يعني الانزلاق نحو نموذج «أبارتهايد» أي دولة عنصرية كاملة.
كما أن استمرار الاستيطان وهدم البنى الفلسطينية، يقطع الطريق أمام أي دولة فلسطينية قابلة للحياة، وهذه الخطوات تؤكد أن الاتجاه الأمني - العسكري هو المسيطر داخل الحكومة والجيش، وكلها بذور انفجار وحرب مع الفلسطينيين في أي لحظة.
وبالنسبة للمؤشرات المتجهة نحو المسار السياسي، فإن طرح إطلاق البرغوثي كمدخل للتفاوض ممكن، ولكنه صعب في ظل وجود وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير ووزير المال بتسلئيل سموتريتش وقد يكون رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أيضاً، بينما يتواصل الضغط الأميركي على إسرائيل في ملفات لبنان وسوريا وغزة، ما قد يمتد إلى الملف الفلسطيني.
كما أن إدراك بعض النخب الإسرائيلية أن استمرار الوضع الحالي يهدد إسرائيل دولياً وسياسياً يعد من المؤشرات التي لاتزال ضعيفة، لكنها حقيقية.
سيناريوهات المرحلة المقبلة
ومن بينها استمرار بناء الجدار في الغور، ومزيد من المستوطنات والبؤر الرعوية، وإدارة الفلسطينيين بنظام عسكري دائم، ورفض أي مفاوضات سياسية حقيقية، ويجد هذا السيناريو دعمه في سياسات الحكومة والجيش بدفع وتوسع اليمين العنصري والفاشي.
وهناك سيناريو ثان هو «انفجار فلسطيني شامل» نتيجة الضم التدريجي، فإذا استمرت سياسات التهجير والضغط، قد تتجدد المواجهات في الضفة بصورة واسعة، وقد ينضم إليها عناصر من قوات الأمن الفلسطينية وينهار التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، ما يعيد إسرائيل إلى مربع العنف ويدفن أي مبادرة سياسية.
كما يوجد سيناريو ثالث يتضمن مبادرة أميركية - إسرائيلية لإطلاق مسار تفاوضي عبر بوابة البرغوثي (سيناريو ممكن لكنه يتطلب تحولات سياسية داخل إسرائيل) بينها زوال حكومة نتنياهو وبن غفير.
وقد تدفع تحولات سياسية إسرائيلية من هذا النوع الإدارة الأميركية - خصوصاً بعد ضغطها في لبنان وسوريا - باتجاه إطلاق البرغوثي، ودعم قيادة فلسطينية موحدة، والعودة إلى مسار تفاوضي محدود.
لكن هذا السيناريو أقل احتمالاً لكنه وارد إذا تغيرت الحكومة الإسرائيلية وغاب نتنياهو عن المشهد، حيث إن إسرائيل ستكون أمام خيارين، لكنها تميل بوضوح نحو واحد وهو اتجاه القوة والضم، وليس اتجاه التسوية.
ويرسم الجيش حدوداً جديدة على الأرض، بينما يدفع اليمين نحو دولة واحدة يهودية، والمعسكر الليبرالي عاجز أو غير راغب في مواجهة الواقع.
في المقابل، لا يبدو أن خيار السلام غائب تماماً، لكنه معلّق بشخص واحد في السجن، وبضغوط أميركية قد تأتي أو لا تأتي، حيث يتحدد مستقبل العلاقة الإسرائيلية - الفلسطينية على نظام، إما نظام فصل عنصري مستدام... وإما محاولة متأخرة لإنقاذ حل سياسي بدأ يتآكل منذ سنوات.