سافر إلى ذاتك

ما بعد الخمسين

3 ديسمبر 2025 10:00 م

ما بعد الخمسين ليس خريف العمر كما يظن البعض، بل بدايته الحقيقية. في هذا العمر لا نركض خلف الحياة، بل نُبطئ لنسمع أنفاسها. نتعلّم أن ما نبحث عنه لم يكن في الخارج، بل كان دوماً في أعماقنا. تقول الباحثة «Laura Carstensen» من جامعة ستانفورد، في دراستها حول النظرية الاجتماعية الانفعالية (Socioemotional Selectivity Theory): «كلما تقدم الإنسان في العمر، أصبحت سعادته أكثر ارتباطاً بالمعنى والعلاقات الإيجابية، وأقل ارتباطاً بالمظاهر والمكاسب». وهذا ما يجعل الخمسين ليست تراجعاً في الحيوية، بل نقلة نوعية في طريقة العيش — من السعي إلى العمق، ومن الكثرة إلى الجوهر.

في العشرين نحلم، وفي الثلاثين نثبت أقدامنا، وفي الأربعين نواجه تناقضاتنا، أما في الخمسين فنبدأ بالتصالح. تتراجع فينا الرغبة في إرضاء الجميع، ونكتشف قيمة أن نكون لأنفسنا لا عليهم. تُظهر دراسة في Journal of Personality and Social Psychology أن مستوى القلق والانفعال ينخفض بعد سن الخمسين بنسبة تتراوح بين 20 في المئة إلى 30 في المئة مقارنة بالعقدين السابقين، بينما يرتفع الإحساس بالرضا والامتنان. هذا يعني أن الإنسان يصبح أكثر هدوءاً واتزاناً، وأقل انجرافاً وراء التوتر والضغوط.

أمثلة من الحياة حولنا كثيرة: امرأة في الخمسين قد تترك وظيفة مرموقة لتبدأ مشروعاً تحبه، أو رجل يتجه إلى الزراعة بعد سنوات في المكاتب، وكأن كلٌّ منهما يقول: «الآن أعيش كما أريد، لا كما يُتوقّع مني».

الشغف في الخمسين ليس ناراً مشتعلة كما كان في العشرين، بل جمرة هادئة تُدفئ الروح. إنه شغفٌ بالحياة نفسها، بالمعنى لا بالسرعة. أظهرت دراسة أجراها Harvard Study of Adult Development — أطول دراسة في التاريخ عن السعادة — أن الأشخاص الأكثر سعادة في أعمار متقدمة هم الذين استمروا في فعل أشياء يحبونها، حتى لو تغيّر شكلها مع الوقت. فالفنان الذي لا يستطيع الرسم واقفاً، يرسم جالساً. والكاتبة التي كانت تكتب كتباً، تبدأ في كتابة رسائل لحفيدتها. والمرأة التي كانت تسافر لتكتشف العالم، تبدأ في اكتشاف نفسها من جديد. الشغف لا يحتاج شباباً، بل قلباً لا يملّ الدهشة. لذلك، العيش بشغف بعد الخمسين يعني أن نسأل أنفسنا كل صباح: «ما الشيء الصغير الذي يمكن أن يجعلني أبتسم اليوم؟» قد يكون كوب قهوة على الشرفة، أو مكالمة لصديقة قديمة، أو تعلم مهارة جديدة.

في هذه المرحلة لا نحب لنعوّض، بل لنتشارك. نحب لأننا أدركنا هشاشتنا، ولأننا نعرف أن الحب الحقيقي ليس تعلقاً بل انسجاماً. دراسة بريطانية من The National Institute on Aging أكدت أن العلاقات العاطفية المستقرة بعد الخمسين تحسّن مناعة الجسد وتقلل خطر أمراض القلب بنسبة 25 في المئة. فالحب لم يعد «مغامرة» بل رعاية مشتركة للحياة. في الخمسين نختار الحب الذي يهدئ لا الذي يلهب، الذي يُصغي لا الذي يُجادل، الذي يمسك أيدينا في صمت لا في استعراض.

لا أحد يمنعنا أن نبدأ من جديد. أن نتعلم العزف أو ندخل دورة طبخ أو نكتب مذكراتنا. في اليابان يُطلقون على ذلك «الإيكيغاي» – سبب استيقاظك كل صباح. هو السبب الذي يمنحك معنى الاستمرار وشغف العيش. في هذا العمر علينا أن نستثمر في صحتنا النفسية قبل الجسدية، أن نمارس التأمل، نتنفس ببطء، ونتوقف عن مقارنة أنفسنا بالآخرين. الهدوء هو الرفاهية الحقيقية بعد الخمسين. لا مكان للعلاقات السامة أو الطاقات المستنزفة. أحط نفسك بأشخاص يجعلونك تشعر بأنك ما زلت تنتمي للحياة لا تنسحب منها. شارك خبرتك مع الأجيال الأصغر، فالحكمة لا تُحتفظ بها بل تُورّث، وحكي قصتك هو امتداد عمرك. ولا تتخلّ عن الأحلام، بل غيّر زواياها. ربما لم تعد تحلم أن تغيّر العالم، لكن يمكنك أن تغيّر يومك، ونفسك، ومن حولك.

في دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا على أشخاص فوق الخمسين مارسوا كتابة «دفتر الامتنان» يومياً لمدة 3 أسابيع، انخفضت لديهم أعراض الاكتئاب بنسبة 35 في المئة، وتحسّن النوم وجودة المزاج. الامتنان هنا ليس تمريناً نفسياً، بل أسلوب حياة. كل صباح قل لنفسك: «أنا ممتن لأنني هنا، لأنني عشت ما يكفي لأفهم، وأهدأ، وأحبّ بعمق».

الخمسون ليست آخر الفصول، بل أجملها كتابة. إنها المرحلة التي نتوقف فيها عن العيش على الهامش، ونبدأ نعيش في صميم أنفسنا. هي وقت للحب الناضج، للشغف الهادئ، للسلام الداخلي الذي لا تشتريه أي ثروة. ما بعد الخمسين هو أن تعيش بحب... وتموت واقفاً على قدميك ممتناً للحياة التي كانت لك، لا آسفاً على ما فاتك.