حروف نيرة

الكيد بين الحيلة والفضيلة

2 ديسمبر 2025 10:30 م

الكيد ذكاء وتدبير يقلب الحقائق، كتحويل الشر إلى الخير أو العكس، قد يُستخدم لتخريب حياة، وقد يُوجَّه لإصلاحها، وهو وصف عام يشترك فيه الرجل والمرأة، إلا أن السائد في ذهن الناس ربط الكيد بالمرأة دون الرجل، لكن القرآن الكريم يُسقط هذه النظرة الضيّقة، ويعرض الكيد في أوسع معانيه، بوصفه صفة إنسانية عامة، يشترك فيها الرجال والنساء، ويُصنّف إلى كيد مذموم، وآخر محمود يُرضي الله ويُفضي إلى الخير.

ولعل أعظم نموذج قرآني يبيّن ذلك هو ما ورد في سورة يوسف عليه السلام، التي تنقّلت بنا بين مشاهد الكيد الثلاثة: بدأت السورة بالرؤيا التي رآها يوسف عليه السلام، رؤيا عظيمة تشير إلى مكانة رفيعة سيبلغها بإذن الله، فهِمَ أبوه يعقوب عليه السلام تأويلها، وحذّره من أن يقصّها على إخوته، مخافة أن يُضمروا له الشر.

لكن الغيرة فعلت فعلها، وتحوّلت إلى كيد مدمّر، حين دبّر إخوته حيلةً لإبعاده، فطرحوه في البئر، طمعاً في محو محبته من قلب أبيهم، فكان هذا الكيد مذموماً، ظالماً، صادراً عن قلوب امتلأت بالحسد.

ثم ننتقل إلى كيد زوجة العزيز، حين راودت يوسف عليه السلام عن نفسه؛ فلما استعصم واتقى، انقلبت عليه بالتهمة، خوفاً من الفضيحة، فاتهمته زُوراً، وكان السجن مصيره، لا لذنب اقترفه، بل لكيدٍ ناعمٍ غلّف الباطل بثياب الطهر. وكان هذا أيضاً كيداً مذموماً، فيه تزييف للحقائق واستغلال للسلطة.

وفي ختام القصة، نرى كيداً من نوع مختلف تماماً: وهو كيد الحِكمة واللقاء: حين التقى يوسف عليه السلام بإخوته وهم لا يعرفونه، دبر أمراً يقتضي بقاء أحدهم عنده، ليعودوا لاحقاً، ومعهم أخوهم الأصغر، ثم والدهم يعقوب عليه السلام؛ فلم يكن هذا الكيد خديعة، بل تدبيراً حكيماً لمّ الشمل، وعادت الروح إلى بيت يعقوب عليه السلام.

وهنا قال تعالى: (كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ) وهو كيد محمود، أحبه الله ورضيه، لما فيه من الخير والمصلحة، كما قال ابن كثير: «وهذا من الكيد المحبوب المراد، الذي يُحبّه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة».

وشرح الراغب الأصفهاني معنى الكيد بدقة، فقال: «الكيد: إرادة متضمّنة لاستتار ما يُراد عمّن يُراد به، وأكثر ما يُستعمل في الشر، فإن قُصد به خير فهو محمود، وإن قُصد به شر فهو مذموم».

إن الكيد، في حقيقته، ذكاءٌ مستتر، لا يُلام عليه الإنسان إن استخدمه لحفظ الحقوق، أو لإصلاح ما فسد، فليس الكيد دوماً مذموماً، ولا محصوراً في جنس دون آخر، بل هو أداة من أدوات العقل والتدبير، يباركها الله إن سُخّرت للخير، ويذمّها إن استُعملت في الباطل، فكم من كيدٍ يُرضي الله، وكم من صراحة تُؤذي وتجرح وتُضلّ.

فلنحذر أن نُسارع بالحكم على النوايا، أو أن نُسقط الألفاظ على غير مواضعها، اللهم ارزقنا حسن النية، ودقة الفعل، واهدنا إلى ما ترضاه من الحيلة، واصرف عنا ما يُغضبك من الكيد.

aaalsenan @