صراخٌ أكثر وفهمٌ أقل!

27 نوفمبر 2025 10:00 م

إن أسوأ شخصية تُجالسها هي تلك التي تعترض بلا مبررات، فتدخل معها في صراع طويل، أشبه بصراعات ساحة الكولوسيوم، ولكنه صراع فكري، تُسفك فيه العقول بدلاً من الدماء.

فإن نطقت بالبراهين، سمعها إهانات، وإن نطقت بالحلول، اعتبرها هزائم. تطرح الموضوع من زوايا عدة، لكنها شخصية ضيقة الأفق، لا ترى إلا من زاوية واحدة، فالعالم عنده إما أبيض أو أسود.

في حين يضيق عليه النقاش، يبدأ برمي الاتهامات، خوفاً من الهزيمة. يلجأ إلى التعميم والتحقير.

كل الآراء تسقط إلا رأي مَنْ أحبته العين.

فهو مغرم بالمقلّدين الجامدين، الإقصائيين، الذين يعتقدون أنهم وحدهم أصحاب اليقين، والبقية ثُلةٌ من الجهلاء، محكوم عليه بالسفه.

فهذا الصنف من الناس غالباً الحديث معه عبارة ضجيج، فهو غير قادر على النقاش، فإن خالفته اعتبرك سفيهاً، وإن جادلته اتهمك بالعمالةِ، وإن أفحمته اعتبرك من الخونة المارقين.

إن سبب رفضه لفكرة أو مشروع، مع ما تقدم من نوعية لفكره، عله يصعب حلها، لأن إعجابه مبني على هوى فاسد، لا على بصيرة معتبرة، فإن كنت شبيههم زانت أمورك، وإلا وُضعت في خانة المتآمرين.

أما العقلية النقدية، فهي إما مدفونة في المردم، لعدم صلاحها، أو مقفلٌ عليها بالأصفاد الاجتماعية، المستنكرة للتجديد والتغيير.

هؤلاء في الواقع لا يحملون رأياً، إنما يحملون هوية شوهها كثرة الأخلاط وتناقض الآراء، ومن أسوأ الأشغال أن يشغل المرءُ وقته بتوافه الأمور، فلا تعلم ولا تتطور.

وتسبّب هذا بقصور النظر في فهمهم لهويتهم، فهم يحبون أن يقرأوا ويسمعوا بالانتصارات، ولكنهم لا يبحثون عن سبب الانتصارات، يحملون النكبات والنكسات لشخص بعينه، وعاجزون عن التحليل بالمجمل.

هؤلاء تجدهم غالباً منشغلين بالمناظرات -غير العلمية- بعيد كل البُعد عن الحقيقة المغيبة. ومغرمين بالشعارات المتطرفة، ويطربون للحناجر المجلجلة.

وأدى هذا لتشويه عقليتهم من عقلية فهم إلى عقلية حرب، فلا داعي لمناقشتهم، فكل مَنْ يحب الصراخ بلا مضمون فهو غير مضمون.

تمر عليه الأيام والشهور، وتسأله ماذا تستفيد؟ فيرد ببرود: فهمت الواقع، وما هو هذا الواقع؟ فيبدأ بالتنظير والتصنيف، ففلانٌ صالح وفلانٌ طالح، وهذا يريد لنا الخير، والآخر يريد لنا الشر، ولكن معايير التصنيف لديه متناقضة، فهو يصنف بناءً على العاطفة، ومن الطبيعي أن يكون لكل شخص وجهة نظره الخاصة، ولكن هل وجهة نظره مكتسبة من التحليل أم من التقليد؟ في الغالب أنها وجهة نظرٍ مكتسبة عن طريق التقليد.

وهذا لا يعني أن المناظرات كلها تافهة، بل بالعكس فيها من الفوائد ما لا يُحصى، وإنما نقصد محبي المناظرات التافهة، الذين يحبون أن يقضوا وقت فراغهم في الضجيج، وكذلك الكتب ليست بمنأى عن ذلك، ففيها من الخزعبلات، مع أنها تحتاج إلى خلو البال وصفاء الذهن، فالبعض يصدّق كل ما يقرأ، فإن كنت تصدق كل ما تقرأ، لا تقرأ، ولنا في المهاترات السياسية، وكتب التاريخ عِبرة، فكره الشيء لا يعني تمني الهلاك له.

ومن المعلوم أن تغيير وجهات النظر يسبّب صدمة فكرية موجعة، وكذلك التراجع عن رأي قد تجعل الإنسان تحت مرمى الشامتين المستهزئين.

وباعتقادي أن السبب هو تشتت الهوية وتخالطها في الكثير من الأيديولوجيات، السياسية، والاقتصادية.

على المرء أن يتشيع للعدل، وإن من العدل التريث وتقصي الحقائق، والتجرّد من العواطف والركون إلى الأدلة ﴿يٰأَيُّهَا الَّذينَ امَنوا إِن جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنوا أَن تُصيبوا قَومًا بِجَهٰلَةٍ فَتُصبِحوا عَلىٰ ما فَعَلتُم نٰدِمينَ﴾، والخبر الصادق عن الشيء الواحد واحد، والخبر الكاذب عن الشيء الواحد لا يُحصى لهُ عدد.

وهذه مبادئ عامة، والتي توصلنا للعلاج، فتعدل اعوجاجنا وتقوّم صراطنا، وترقّق وجداننا، ومردُ ذلك أن يسهم في تغيير المجتمع، فالدولة تضع الإطار، والتعليم يصنع الأجيال، والحملات تغير السلوك، والمثقفون يوجهون، والفرد الجاد يصنع دائرة صغيرة حوله، والفرد هو أساس المجتمع، وهذه كلها أحلام لعلها تتحقق في يومٍ من الأيام.