توصل «حزب الله» إلى استنتاج حاسم في شأن طبيعة مواجهته مع إسرائيل، قوامه أنه انتهى فعلياً عصر تبادل الصواريخ واسع النطاق. حتى في حال اغتيال أمينه العام أو كبار صناع القرار من المستبعد أن يندفع تلقائياً إلى حملات تراشق صاروخي انتقامي. فقد قررت القيادة أن الصواريخ بعيدة المدى والدقيقة لن تُستخدم إلا إذا استهدفت إسرائيل المدنيين عمداً.
يمثل هذا التطور تحولاً عقائدياً إستراتيجياً كبيراً، إذ يرتبط صبر «حزب الله» الآن في شكل واضح بحماية حياة المدنيين وتجنب سيناريو تدميري في لبنان على غرار غزة. وتدرك إسرائيل هذا الخط الأحمر تماماً، كما أنها تعلم أن الحزب أعطى الأولوية الآن لبناء قوة دفاعية مُصممة للاشتباك مع أي قوات برية إسرائيلية تحاول الاستيلاء على قرى في جنوب لبنان أو احتلالها، بدلاً من الانخراط في حرب صاروخية مفتوحة غير متكافئة مع سلاح الطيران الإسرائيلي.
في هذا الإطار، يتوقع الحزب أن تواصل إسرائيل حملتها من الاغتيالات الموجهة والضربات الدقيقة في عمق لبنان، بما في ذلك ضواحي بيروت، كلما تسنى لها اصطياد هدف تعتبره مناسبا. ويدرك الحزب أن مثل هذه العمليات ستستمر طالما حافظت الولايات المتحدة على غطاء إستراتيجي لأفعال إسرائيل. ويندرج اغتيال القائد العسكري المنفذ في المجلس الجهادي هيثم طبطبائي ضمن هذا النمط، لكنه لم يُغير التوازن الإستراتيجي.
وكان طبطبائي قد تمرس في مسارح عمليات عدة، وهو شخصية رئيسية في الهيكل العسكري للحزب ولكنه لا ينتمي إلى الجيل المؤسس. ومع ذلك، كان مقتله نتيجة نظرية أمنية لدى أمنه الشخصي: فقد اعتمد على قاعدة أن مركزه لم يقصف أيام حروب إسرائيل حتى ولو كان معروفاً ويستخدمه منذ أكثر من عقد، وبقي قريباً من مواقع عائلته، وانتقل من دون تحوطات كافية إلى حي كان معروفاً به جيداً. وتالياً فإنه من المؤكد أن إسرائيل حققت نجاحاً تكتيكياً بقتلها هدفاً بارزاً، لكن الحدث لم يكن له عواقب عملياتية يمكن أن تُغير مسار الصراع.
ومع ذلك، فقد مر «حزب الله» بتحولات هيكلية وتنظيمية عميقة نادراً ما تُناقش خارج نطاق أطره. لقد انتهت الفترة التي كان فيها القادة المؤسسون يتصرفون كشخصيات شبه مستقلة ذات ميزانيات خاصة وشبكات كونفيدرالية وقدرة على ابتكار عمل عسكري وحماية مناطق نفوذ كل منهم.
في عهد الأمين العام الجديد الشيخ نعيم قاسم، أُعيد توزيع السلطة في تسلسل هرمي منضبط وعملي حيث يعمل كل بحسب تكليفه. يعمل القادة الآن بدقة ضمن مجالات خبرتهم، ولا يُعتبر أي فرد لا غنى عنه. تُعد هذه المأسسة واحدة من أهم التطورات وأقلها وضوحاً داخل «حزب الله».
فهي تقضي على خطر التفرد وصراع النفوذ وتضمن الاستمرارية حتى عند مقتل شخصيات بارزة. بالنسبة إلى إسرائيل، يمكن للاغتيالات أن تحقق انتصارات تكتيكية أو رضا سياسي، لكنها لا يمكن أن تُحدث اضطراباً هيكلياً داخل الحزب.
لذلك، ينبغي على لبنان توقع مرحلة تتميز بوتيرة عالية من عمليات القتل المستهدف بدلاً من حرب واسعة النطاق. سيواصل المسؤولون الإسرائيليون تصوير هذا على أنه «حرب بين الحروب» أو «حملة أيام» مطولة، لكن «حزب الله» لن ينجرف إلى مواجهة صاروخية ما لم يتم تجاوز خطوطه الحمر المدنية. فمن وجهة نظره، يقع مقتل أيٍّ من مقاتليه أو قادته ضمن التكلفة الأيديولوجية والعملياتية المتوقعة للعضوية. وتقع على عاتق كل قائد مسؤولية تقليل التعرض، وتجنب تزويد إسرائيل بالمواجهات الدموية والدراماتيكية التي قد يسعى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لتحقيق مكاسب انتخابية أو سياسية.
من الجانب الأميركي، لا يوجد دليل على أن واشنطن مستعدة لكبح جماح النهج الإسرائيلي الحالي في لبنان. إذ يأمل الرئيس دونالد ترامب في تجميع أكبر قدر ممكن من «إنجازات السلام» المتفاوض عليها، واضعاً غزة وأوكرانيا وملفات أخرى كجوائز محتملة مازالت غير مكتملة. فقد كان وقف الحرب في غزة مطلباً ساحقاً من جميع الأطراف والدول، بما في ذلك إسرائيل، مادامت تل أبيب تحافظ على الحرية العملياتية التي تتمتع بها في لبنان. بالنسبة إلى واشنطن، لهذه الحرية قيمة إستراتيجية، فهي تسمح لنتنياهو بتحقيق انتصارات سياسية من خلال استهداف شخصيات أو بنى تحتية، مع تجنب أي أعمال في غزة قد تثير رداً عسكرياً متجدداً من «حماس».
بينما يتم تعويض القيود التي يواجهها نتنياهو في غزة في مسرح عمليات آخر، أي في لبنان، حيث تعتبر الولايات المتحدة «حزب الله» خصماً مشتركاً وتدعم الجهود الإسرائيلية لإضعافه أو تفكيكه. ومع ذلك، تواجه الولايات المتحدة وإسرائيل مشكلة هيكلية لا يمكن لأي منهما حلها. فـ«حزب الله» متجذر بعمق في مجتمع داعم، يعمل انطلاقاً من داخل مجتمعه، ويعتمد على شبكات اجتماعية وسياسية وعائلية واسعة توافر له الحماية والشرعية. وهذا ما يميز الحزب عن جماعات مثل «القاعدة» أو «داعش»، التي كانت تعمل في بيئات معادية أو داعمة جزئياً فقط، وفي إمكان الولايات المتحدة استخدام الطائرات المسيرة لتدمير هذه التنظيمات لأن مقاتليها غالباً ما كانوا يتحركون في مناطق غير متعاطفة. بينما لا يستطيع نتنياهو تكرار هذا النموذج في لبنان؛ فأي محاولة للقيام بذلك ستؤدي إلى سقوط ضحايا مدنيين، وستثير رداً انتقامياً هائلاً ربطه «حزب الله» الآن بالأضرار المدنية، وستُغرق إسرائيل في حرب ترغب في تجنبها خصوصاً أثناء حملة نتنياهو الانتخابية والتي يحاول قيادتها بالدم الفلسطيني واللبناني ويتجنب ردات الفعل.
ولهذا السبب، ورغم تعرض «حزب الله» لانتكاسة كبيرة من حيث تآكل الردع والاختراقات الاستخباراتية، فإنه مازال بعيداً عن الهزيمة. لقد فرض تدمير وحدات الصواريخ، واغتيال القادة، وكشف شبكات الاتصالات تكاليف حقيقية. حُرم الحزب من عناصر من موقعه الرادع التقليدي. لكن لم تُقرّب أي من هذه التطورات «حزب الله» من الانهيار. لقد تعلم من صراعات الماضي، وفكك هياكله الرئيسية، وأعاد تنظيم بروتوكولات القيادة، وعزز الانضباط الداخلي. وهو يعمل الآن وفق عقيدة قوامها التحمل والتكيف والحفاظ على القدرات والبيئة بدلاً من التصعيد الهجومي.
عملياً، تتمحور إستراتيجية «حزب الله» الحالية حول منع نجاح أو استقرار أي غزو بري إسرائيلي واستيعاب الضربات الموجهة دون فقدان شرعيته. يُقرّ الحزب باستمرار إسرائيل في ضرب أهداف سهلة المنال في جميع أنحاء لبنان، وبتزايد الاغتيالات. لكنه يُقدّر أن تجنب حرب صاروخية واسعة النطاق يُحافظ على أرواح اللبنانيين، ويمنع الدمار الكارثي للبيئة الحاضنة، ويحرم إسرائيل من النصر الإستراتيجي الذي تسعى إليه. يُعرّف «حزب الله» الآن الردع بالصبر والجاهزية، والتهديد المُقنع بالتصعيد. هذه العتبة واضحة: أي هجوم إسرائيلي مُتعمّد على المدنيين سيُزيل القيود التي فرضها الحزب على نفسه، ويُفعّل ترسانته بعيدة المدى التي تبحث عنها إسرائيل لتدميرها.
حتى ذلك الحين، سيُعطي «حزب الله» الأولوية للاستعداد الدفاعي، والمرونة التنظيمية، وضبط النفس الإستراتيجي. وهو يُدرك أن الأزمة تُرهق السكان، وأن لبنان لا يستطيع تحمّل غزة ثانية، وأن شرعيته تعتمد على تجنب التصعيد غير الضروري. لذلك، أعاد تقييم نموذج ردّه مع تقبّل عبء الاستنزاف المُستمر.
تستطيع إسرائيل قتل القادة، لكنها لا تستطيع تفكيك البنية التنظيمية. تستطيع الولايات المتحدة تشجيع الضغط الإسرائيلي، لكنها لا تستطيع تغيير البيئة الاجتماعية التي تدعم الحزب.
إن تآكل الردع حقيقي، لكنه جزئي، ومازال جوهر الحركة الإستراتيجي (رسوخها، وقدرتها على تجديد القيادة، وقدرتها على مواجهة أي قوة احتلال) على حاله.
لقد أعاد «حزب الله» تعريف المواجهة. وهو يعمل الآن وفق عقيدة يُشكل فيها الحفاظ على المجتمع وتجنب المجازر المدنية عملية صنع القرار العسكري. قد تستمر الاغتيالات الإسرائيلية، وقد تشجعها الولايات المتحدة، لكن أياً منهما لن يدفع «حزب الله» إلى حرب لا يسعى إليها ولا إسرائيل للتمادي. ستُحدد المرحلة المقبلة بضبط النفس الانتقائي، والتحصين الدفاعي، والالتزام الراسخ بمنع لبنان من الانزلاق إلى الدمار الذي شهده العالم في غزة. في هذه الحسابات، الصمود هو الإستراتيجية.