ذاك الذي يدخل حياتك كوميضٍ ثم يختفي تاركاً وراءه أثراً لا يُمحى. هو الحضور الذي لا يُرى، الصوت الذي لا يُسمع إلا في صدى الذاكرة. يبدو قريباً بما يكفي لتشعر به، وبعيداً بما يكفي ليجعلك تتساءل: هل كان هنا حقاً أم أنني تخيّلته؟ إنه الشخص الذي يجلس أمامك بملامحه الكاملة، لكن روحه غائبة. يبتسم في وجهك، يشاركك الحديث، لكنه في داخله يسكن عالماً لا تملك مفاتيحه. وجوده مثل ظلٍّ يتبعك حين تضيء أنوار قلبك، ويختفي حين يحلّ الليل في روحك.
من المنظور النفسي، يُعتبر هذا النوع من الأشخاص نموذجاً لنمط الارتباط المتجنب، وهو أحد أنماط الارتباط التي تحدد طريقة الإنسان في تكوين العلاقات العاطفية. هذا الشخص يتوق إلى الحب لكنه يخافه في الوقت ذاته، يحتاج القرب لكنه يهرب منه. تربّى غالباً في بيئة افتقد فيها الأمان العاطفي، فتعلّم أن القرب خطر وأن الاعتماد على الآخر ضعف. حين تقترب منه، يشعر بالاختناق، وحين تبتعد، يشعر بالفراغ. يختفي لا لأنه لا يريدك، بل لأنه لا يعرف كيف يكون معك دون أن يفقد نفسه.
تؤكد دراسات في علم النفس الاجتماعي أن الأشخاص المتجنبين للعاطفة يستخدمون الانسحاب كآلية دفاعية، لأن القرب يوقظ فيهم خوفاً دفيناً من الرفض أو الفقد. وفي دراسة أُجريت في جامعة هارفارد عام 2021 حول ظاهرة «الاختفاء العاطفي»، وُجد أن هذا السلوك لا يدل دائماً على قسوة أو لا مبالاة، بل على هشاشة نفسية تجعل صاحبه يختار الغياب بدل المواجهة. إنه يختفي حين يصبح الوجود مكلفاً، وحين تقترب مشاعر الحب من لمس جرحٍ قديم لم يلتئم بعد.
أما الطرف الآخر، فيعيش حالة من التشويش العاطفي، كمن يمدّ يده ليلمس الحضور فيصطدم بالهواء. يرتبك بين الأمل والخذلان، بين صوت يقول «إنه يحبك» وواقعٍ يصرخ «إنه غائب». يشعر بالوحدة رغم وجود علاقة، ويتغذى على فتات الوعود والرسائل المتقطعة. هذه الحالة تُعرف في التحليل النفسي بدائرة القلق والارتباط، حيث يتحوّل الحب إلى انتظارٍ دائمٍ لا نهاية له، وينشأ نوع من الإدمان على الشخص الغائب، لأن الدماغ يربط الألم بالحب فيتعذر الانفصال عنه.
يقول علماء النفس إن «الحبيب الشبح» لا يتركك لأنه يكرهك، بل لأنه لم يتعلم كيف يحب دون أن يختبئ. هو مرآةٌ لذاته الممزقة، يراك من خلالها ولا يرى نفسه. قد يكون نرجسياً خفياً، يحتاج إلى أن يُشتاق له أكثر مما يحتاج إلى أن يُحَب، فيتعمّد الغياب كي يُبقيك في حالة بحثٍ عنه. يخلق المسافة ليشعر بالقوة، ويختار الصمت ليبقى لغزاً. إنهم أولئك الذين يتقنون فن الحضور المؤجل، ويجعلون الغياب وسيلتهم للسيطرة.
لكنك مع الوقت تكتشف أن مَنْ يغيب كثيراً لا يريد البقاء، وأن مَنْ يحضر نصف حضور لا يستحق كل هذا الانتظار. الحبّ الحقيقي لا يعيش في المسافات، ولا يُقاس بعدد الرسائل ولا بطول الصبر، بل بصدق الوجود. الوجود الذي يمنح الطمأنينة لا الارتباك، الذي يُشبع لا يُنهك، الذي يُنير لا يُطفئ.
الحبيب الشبح ليس درساً في الخذلان فقط، بل في الوعي. فهو يدفعك إلى أن تُعيد تعريف معنى الحضور، أن تفهم أن وجود شخصٍ لا يعني مشاركته لروحك، وأن الغياب ليس دائماً قسوة، بل أحياناً نجاة. في النهاية تدرك أن الحب الذي يختفي مع أول اختبار لم يكن حباً، بل وهماً يشبه الحلم حين يوقظك الفجر.
فلا تبحث عن مَنْ يُطلّ كالغيم ويغيب كالدخان، بل عن مَنْ يراك حين تصمت، ويمسك يدك حين تتعب، ويبقى دون أن تُطالبه بالبقاء. لأن الحضور الحقيقي لا يُطلب، إنه يُعاش. ومَنْ لا يعرف كيف يكون حاضراً، علّمه أن الغياب ليس بطولة، وأن الأرواح النقية لا تعرف التخفي.