يكبر الإنسان ويتقدّم به العمر، ولكن أحياناً لا تكبر معه أفكاره وطموحاته وأهدافه، بل تكبر رغباته الغريزية فقط. وإن طلب علماً حفظ ولم يفهم، أو تعلّم لمجرّد حلّ الاختبار أو الحصول على شهادة أو تميّز وظيفي، فيتقدّم ما يُسمَّى بدرجته العلميّة وتتأخّر عقلانيّته وتقديره للعلم الذي درسه.
وإن عمل عملاً لعلوّ الراتب كان بائعاً لنفسه لا مؤدّياً لإنسانيّته، وكلاهما أمرٌ مشروع. وبذلك يحمل أسفاراً لا يعرف قيمتها، ولا فيما حُمِّلها، ولا لمن يحملها. كلّ ما يعرفه هو الطعام الذي يُقدَّم له تلقاء حَمله لِما حَمل، ثَقُل أم خَفَّ. ولكنه في هذه الحال يُشابه الطفلَ الذي تعلّق بأوّل ما وجده من الدنيا من أفكار، رافضاً توسيع دائرة البحث والنظر من حوله ليكتشف إن كان يستطيع غير ما هو عليه، أو ما جُبل عليه، أو وُكِل إليه. فلعلّه يكون صالحاً لغيره، إذ إنّ الإنسان في كلّ مرحلة من حياته قد يصلح لما لم يكن يصلح له من قبل ولا من بعد.
يجتمع الناس غالباً على وحدة الرأي وسيرهم عليه، ثم تعظيمه، ثم الدفاع عنه وعن حامليه وتبنّيه والعاملين به؛ لا اقتناعاً ولا لعظمة الرأي ذاته، بل لأنّ العقل الفارغ يُسلِّم لكلّ رأي يوهمه، والقلب المحجوب يؤمن بكلّ مبدأ يداعب عواطفه. والأعجب ليس تسويد الرأي العقيم أو التافه أو المبدأ الباطل، بل تشكّله على أشخاص وذوات، وأنّ إيمان المؤمن واقتناع المقتنع ما هو إلا ثمرة الفراغ الذي توَّج العقول، وامتلك القلوب، وأسر الأرواح في سجن الفراغ.
والفراغ الذي تفرّغنا له وسلّمناه زمامنا أسر حياتنا بقيود التواصل الاجتماعي بشتى أشكالها وطرقها، لنصبح محبوسين حبساً قصرياً افتراضياً في سجنٍ افتراضي، بلا تهمةٍ اتُّهِمنا بها ولا ذنبٍ اقترفناه. والخطيئة أنّنا ملّكنا الفراغ أنفسنا، ودفعنا لأسره أموالاً، وبذلنا مشاعر صادقة، ممّا ترتّب عليه أن أصبح الإنسان يعيش تحت سلطة الفراغ «المقدّسة» بنفوذها وهيمنتها.
أعتقد أنّ الإنسان الفارغ عقلاً وقلباً قد يسلّم إيمانياته ومعتقداته ومصدر تلقّي معلوماته، وإنفاق أمواله، بل حتى دخله ومشاعره، لغير محلّها؛ لا على سبيل الخطأ فحسب، بل بوهمٍ يعود عليه براحةٍ مزيفة. وأخطر ما في الأمر أن المتسلّط وهم، والموجِّه وهم، والمتلقي وهم، والمساحة المشتركة الجامعة بينهم وهم. فإذا أراد الإنسان مجاهدة تعلّقه، جاهد وهماً آسراً لحواسه ومدركاته ومشاعره، ليصبح بعده طريحاً لا هَمّاً ولا هِمّة.