«القهر بعد الموت»... وراء احتجاز إسرائيل لجثث الفلسطينيين وتسليم المئات بلا اسم

13 نوفمبر 2025 10:00 م

- لا يُمكن الحداد على جسد بلا اسم في شكل كامل... فالشخص المفقود يُبقي الجرح مفتوحاً إلى الأبد
- إحدى الأمهات من جباليا: لم يتبقَّ الكثير لأراه... عرفت أنه هو من كمّه

يبدو أن قسوة إسرائيل لا تنتهي. فبينما سلّم الفلسطينيون هوية كل جندي إسرائيلي محتجز لديهم، أعادت إسرائيل 315 جثة فلسطينية من دون أسماء. لم يتم التعرّف على هوية سوى 89 جثة، في عملية مؤلمة للغاية لدرجة أن العائلات وصفتها بأنها وفاة ثانية. استُدعيت الأمهات والآباء والأشقاء لتفقد الملابس الممزقة والوجوه المحروقة والأطراف المبتورة، بحثاً عن آثار أحبائهم بين الرفات المشوهة.

مشاهد في مستشفيات خان يونس تتحدى الفهم. في خيام حُوِّلت إلى مشرحة موقتة، تقف العائلات في طوابير لساعات، ممسكة بالصور أو قطع القماش، على أمل أن يُنهي التعرف - مهما كان مُدمّراً - محنتهم. لا يجد الكثيرون سوى شظايا: ساق، كتف، جذع متفحم.

تعترف وزارة الصحة الفلسطينية بأنها تفتقر إلى المعدات والقدرات المخبرية اللازمة لإجراء تحليل شامل للحمض النووي. لقد أدت أعوام الحصار والعقوبات والقصف المتكرر إلى تقليص مرافق الطب الشرعي إلى غرفة خاوية ذات تبريد غير موثوق وأدوات بدائية. غالباً ما تقع مهمة تحديد الهوية على عاتق المتطوعين - الممرضات والجيران ورجال الدين - الذين يعتمدون على الذاكرة بدلاً من العلم. يصف الدكتور فاضل، أخصائي علم الأمراض في مدينة غزة، هذه المهمة بأنها تتطلب تحملاً: «نعتمد على الندوب وأنماط الأسنان وحتى الملابس. لكن التحلل أو تقطيع الأوصال غالباً ما يجعل الأمر مستحيلاً. نسجل كل تفصيلة تحسباً لوصول أحد الأقارب بمعلومات جديدة يوماً ما.»

يواجه عمال الدفاع المدني مهمة مستحيلة بالقدر نفسه. فالضربات المستمرة تدفن الجثث تحت الأنقاض، ويضرب القصف الجديد المواقع عينها قبل اكتمال انتشالها. قال أحد المنقذين من رفح: «نحفر، ونعثر على عظام، وأحياناً عائلات بأكملها سحقت معاً. ثم يُقصف المكان نفسه مرة أخرى، ونبدأ من جديد.»

يقول مسؤولون فلسطينيون إن ما يقرب من 11.000 شخص مازالوا في عِداد المفقودين. يُعتقد أن بعضهم محتجز في منشآت إسرائيلية سرية؛ بينما يرقد آخرون تحت أطنان من الأنقاض. ترفض إسرائيل تقديم قائمة بأسماء من تحتجزهم، متذرعةً بـ«أسباب أمنية».

يصف خبراء القانون الدولي والوكالات الإنسانية احتجاز إسرائيل للجثث بأنه انتهاك جسيم لاتفاقيات جنيف. تُلزم المادة 130 من الاتفاقية الرابعة سلطات الاحتلال بتسهيل إعادة الرفات والسماح للعائلات بمعرفة مصير أقاربهم. وصرّح مسؤول قانوني رفيع المستوى في اللجنة الدولية للحقوقيين: «إن احتجاز إسرائيل المنهجي للجثث يرقى إلى مستوى العقاب الجماعي. فهو يحرم الموتى من كرامتهم ويلحق بالأحياء تعذيباً نفسياً مستمراً».

مقابر الأرقام الإسرائيلية

هذه السياسة ليست جديدة. فمنذ أواخر الستينيات، احتفظت إسرائيل بآلاف الجثث الفلسطينية، وأفرجت عنها بين الحين والآخر كبادرة سياسية. وفي جميع أنحاء وادي الأردن والجليل، تحتفظ إسرائيل بمقابر عسكرية سرية تُعرف باسم مقابر الأرقام، وهي مواقع يُدفن فيها الفلسطينيون الذين قُتلوا في الحروب أو الغارات تحت لوحات مرقمة بدلاً من أسمائهم. وثّقت منظمات حقوق الإنسان، مثل «عدالة» و«بتسيلم» و«مركز القدس» للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، أربعاً على الأقل من هذه المقابر: بالقرب من قرية عميعاد في الجليل الأعلى، وعند جسر آدم وجسر روتنبرغ في وادي الأردن، وبالقرب من الحدود السورية. وقد تأكّد وجودها من خلال شهادات جنود إسرائيليين سابقين، وملفات المحاكم، وصور الأقمار الاصطناعية، ومع ذلك تواصل إسرائيل تصنيف محتوياتها بدقة.

في كل قبر لوحة معدنية فقط تحمل رقماً. بعضها يحتوي على جثث كاملة؛ والبعض الآخر يحمل شظايا مختومة في أكياس بلاستيكية أو صناديق خشبية. بمرور الوقت، أدت التعرية والفيضانات إلى خلع العظام وتدمير السجلات. لا تملك العائلات التي تبحث منذ عقود أي يقين عما إذا كان أقاربها يرقدون في هذه المواقع، أو في مشرحة عسكرية، أو ما زالوا تحت الأنقاض. وفقاً للتقديرات الحالية، يُدفن ما بين 250 و350 جثة في مقابر مرقمة، وتُحتجز أكثر من 100 جثة أخرى في المشارح الإسرائيلية... أكثر من 600 جثة إجمالاً، بعضها محتجز منذ سبعينيات القرن الماضي.

يعتبر علماء القانون ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة هذا انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي واتفاقية جنيف الرابعة. في العام 2018 وصف المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء (A/HRC/37/75)، هذه الممارسة بأنها عقاب جماعي يُطيل أمد الصدمة على الأحياء ويحرم الموتى من كرامتهم.

تحدث عمليات إفراج عرضية (عادةً ما تكون مرتبطة بحسابات سياسية أو مفاوضات تبادل أسرى) لكن معظم العائلات مازالت تنتظر. إذ تُمثل مقابر الأرقام أكثر من مجرد مقابر؛ إنها ترمز إلى الاختفاء نفسه، وحجب الهوية كامتداد للاحتلال.

بالنسبة إلى العائلات، يُثير كل إعلان عن العودة الأمل والخوف في آن واحد: إمكانية الانغلاق، والخوف من مواجهة مدمرة أخرى. أصبحت إعادة الدفن أعمال تحدٍّ مهيبة. تُحمل النعوش الملفوفة بالأعلام الفلسطينية عبر الشوارع الضيقة، بينما ترتفع الهتافات من الحشود... ليس فقط حداداً دفن الموتى، بل استعادتهم.

حيث يستحيل تحديد الهوية، تُنشئ العائلات طقوساً مرتجلة. تُوضع علامات خشبية على قبور موقتة، نُقشت عليها ببساطة كلمات الله المعروفة. يتلو الأئمة الصلوات دون وجود جثث لدفنها. على وسائل التواصل الاجتماعي، تظهر صفحات مخصصة للمفقودين، تُقرن صوراً مبتسمة بأشكال ضبابية ومكسورة استُعيدت من المشارح. يصبح فعل التسمية وقفة احتجاجية وطنية، يدعمها الحزن والرفض.

العواقب النفسية وخيمة. يُبلغ علماء النفس في غزة عن تزايد حالات الفقد الغامض، حالة مُعلقة لا تأمل فيها العائلات ولا تتقبل، تعيش بين الإنكار واليأس. تذكرت إحدى الأمهات من جباليا أنها تعرفت على ابنها المراهق فقط من خلال لون قميص كرة قدم رث: «لم يتبقَّ الكثير لأراه. عرفت أنه هو من كمه».

يتفاقم هذا الوضع بسبب اختلال التوازن في المعاملة. تُنشر هويات الأسرى الإسرائيليين وصورهم وقصصهم على الفور عبر وسائل الإعلام الدولية. الضحايا الفلسطينيون، حتى في موتهم، يظلون مجرد إحصاءات، مجهولي الهوية، مُختزلين إلى أرقام. هذا التفاوت جزء من الحرب النفسية: جعل حياة مرئية وأخرى غير مرئية، مما يُوسّع نطاق منطق الاحتلال ليشمل الموتى.

قدّم خبراء الطب الشرعي من الخارج المساعدة، لكن الوصول غالباً ما يُمنع بسبب القيود العسكرية أو نقص التنسيق. حتى خلال فترات الهدنة الموقتة، يفوق حجم الدمار القدرة على تقديم المساعدة. تُفيد الفرق الدولية بأن الجثث مُجزأة لدرجة أنه لا يُمكن التعرف عليها إلا في شكل جزئي - يد، حذاء، قطعة قماش محفوظة لاختبار الحمض النووي قد لا تُتاح أبداً.

وراء هذا الرعب الإنساني يكمن سؤال أعمق: ما معنى محو الهوية بالموت؟ بالنسبة إلى الفلسطينيين، إنها المرحلة الأخيرة من نزع الإنسانية، حرمانهم ليس فقط من الحياة، بل من الاسم والطقوس والذاكرة. لا يُمكن الحداد على جسد بلا اسم في شكل كامل؛ فالشخص المفقود يُبقي الجرح مفتوحاً إلى أجل غير مسمى.

في غزة والضفة الغربية، أصبح الحداد شكلاً من أشكال المقاومة. الإصرار على تسمية الموتى، والبحث عن الشظايا، والمطالبة بالمساءلة، كلها أفعال تتحدى نظاماً قائماً على المحو. كل قبر يحمل علامة مجهولة هو اتهام أخلاقي، وتذكير بالعنف الذي يسعى إلى اختزال الناس إلى أرقام.

ما يدوم في غزة ليس الأنقاض فحسب، بل الصمت الذي تفرضه الديبلوماسية الدولية. تصدر الحكومات بيانات «قلق»، لكن لا أحد يطالب بالمساءلة عن انتهاك حرمة الموتى. في غياب الضغط، تتكرر الدورة نفسها: قصف، دفن، إخفاء الهوية، عودة.

ومع ذلك، يقف الفلسطينيون في طوابير لتحديد هويتهم. يفعلون ذلك ليس لأنهم يعتقدون أن النظام سيتغير، بل لأن الاعتراف بالموتى هو الحفاظ على الإنسان الحي. في هذا الفعل يكمن استعادة هادئة للكرامة... رفض قبول الاختفاء. وكما قال أحد الآباء من خان يونس، واقفاً بجانب قبر حُفر حديثاً: «يمكنهم دفن أطفالنا من دون أسماء، لكنهم لا يستطيعون محو هويتهم. سنظل نذكر أسماءهم حتى يتذكرهم العالم أيضاً».