سأفر إلى ذاتك

ليس كلّ اعتذارٍ يُقبَل... حين تصبح «آسف» مجرّد كلمة!

12 نوفمبر 2025 10:00 م

في زمنٍ يتسابق فيه الناس على إلقاء كلمة «آسف» كما لو كانت تعويذةً تمحو الألم، فقد الاعتذار معناه العميق. صار روتيناً اجتماعياً أكثر من كونه موقفاً إنسانياً، وصار يُقال لتسكين الغضب لا لإصلاح الضرر.

لكنّ الحقيقة أن الاعتذار ليس مجرد اعترافٍ بالخطأ، بل هو وعيٌ بالأثر، ومسؤوليةٌ تجاه الآخر، وشجاعةٌ في مواجهة الذات قبل مواجهة من جُرح.

الاعتذار فعلٌ يتطلّب نضجاً نفسياً. من يعتذر بصدقٍ لا يبحث عن راحته، بل عن راحة الآخر. هو من يتقدّم بخطوةٍ نحو من تأذّى، دون خوفٍ من الانتقاص أو رغبةٍ في كسب الصفح السريع. في علم النفس، يُعدّ الاعتذار الصحيح أحد مؤشرات الذكاء العاطفي، لأنه يعكس قدرة الإنسان على التعاطف، وضبط انفعالاته، وتحمّل تبعات أفعاله.

ومع ذلك، فليست كلّ الاعتذارات متساوية. هناك من يعتذر لأنه ندم، وهناك من يعتذر لأنه خاف. الأول ينوي التغيير، والثاني فقط يريد أن يُغلق الملف. ولهذا يقال: «من يعتذر ليرتاح، لا يعتذر ليُصلح».

الاعتذار بين النضج والضعف

من الأخطاء الشائعة اعتبار الاعتذار ضعفاً. بالعكس، هو ذروة القوة الأخلاقية. الاعتذار لا يعني أنك أقلّ من الآخر، بل يعني أنك أكبر من خطئك. لكن في الوقت نفسه، الإفراط في الاعتذار يفقد الإنسان توازنه الداخلي. فالذي يعتذر دائماً عن كل شيء، يعيش في قلقٍ مزمنٍ من الرفض، ويظنّ أن القبول لا يُنال إلا بالانكسار.

الاعتذار يجب أن يكون وعياً لا عادة، موقفاً ناضجاً لا خوفاً اجتماعياً، لأنّ العلاقات التي تُبنى على المجاملة تنهار عند أول صدق.

فنّ الاعتذار... مهارة إنسانية نادرة

فنّ الاعتذار هو القدرة على ملامسة قلب الآخر دون أن تبرر، وعلى قول «أخطأت» دون أن تختبئ وراء النوايا. في علم النفس الإكلينيكي يُقال إن الاعتذار الفعّال يتكوّن من ثلاث مراحل:

1. الاعتراف بالخطأ دون تجميل أو تبرير.

2. إظهار التعاطف الحقيقي مع مشاعر الشخص المتأذّي.

3. التصرف بإصلاح يُثبت صدق الندم ويُرمّم الثقة المكسورة.

هذه المراحل ليست شعارات، بل عملية داخلية لإعادة بناء الاتصال الإنساني. الاعتذار لا يُقاس بجمال كلماته، بل بصدق نبرته، واستمرارية سلوكه. من يعتذر ولا يتغيّر، كمن يرشّ عطراً على جرحٍ مفتوح.

حين لا تكفي «آسف»

«هناك مواقف لا تُصلحها الكلمات مهما كانت صادقة. لأنّ الألم تجاوز حدود الخطأ، ووصل إلى حدود الكرامة. والكرامة، حين تُمسّ، لا يُصلحها ندم، بل وعيٌ لا يُكرّر الإساءة.

فيمكن أن أُسامحك إن كسرتَ شيئاً أملكه، لكنّ كسرك لقلبي ليس فعلًا يُجبر بالاعتذار. لأنّ المشاعر حين تُهدر، لا تُرمّمها الحروف، بل الأفعال.

الاعتذار يُجدي حين يُداس على قدمي، لا حين يُداس على قلبي. يُصلح ما أُفسِد بسوء تقدير، لا ما أُفسِد بسوء نية. بعض الأخطاء تُغفر بالوعي، وأخرى تبقى شاهدة على لحظةٍ لم يكن فيها الإنسان وفيّاً لإنسانيته.

كما أن الاعتذار ليس نهاية الحكاية، بل بدايتها الجديدة إن كان صادقاً. لكنه يصبح عبثاً حين يُقال بلا نية تغيير. فهناك جراح تُشفى مع الوقت، وأخرى تبقى لأنّ الكلمة لم تلمس عمق الشعور.

والحق أن ليس كلّ اعتذارٍ يُقبَل، لأن ليس كلّ من يعتذر يفهم ماذا كسر فينا.

واخيراً..

لطالما كان الاعتذار دليل تحضّرٍ ورُقيّ، لكن ليست كلّ المواقف يُصلحها الاعتذار.

فالاعتذار يُجدي عندما تدوس قدمي بغير قصد، لا عندما تدوس قلبي.

يمكنني أن أغفر لمن كسر شيئًا أملكه،

لكنّ من كسر خاطري لا يُرمّمه الندم.

فهناك أخطاء لا تُصلحها كلمة «آسف»،

لأنّ الجرح حين يمسّ الكرامة،

يُصبح أعمق من أن يُشفى بالكلمات.