في خضم التحولات الإقليمية والدولية، تبدو إسرائيل اليوم، وكأنها تتفكك من داخلها، حيث تتصاعد التناقضات بين قيمها المعلنة وهويتها الفعلية، وبين خطابها الديمقراطي وممارساتها الإقصائية، وبين مشروعها الديني العنصري وقاعدتها العلمانية، وفقاً لدراسة نُشرت في تل أبيب اليوم الإثنين.
وذكرت الدراسة التي أجراها العقيد المتقاعد عيران ليرمان، أن «هذه المفارقات، التي تراكمت عبر عقود، انفجرت بوضوح بعد حرب غزة الأخيرة، لتكشف عن تصدّعات عميقة في البنية السياسية والاجتماعية والأخلاقية للدولة العبرية».
وقال إنه «منذ نشأتها، حاولت إسرائيل الجمع بين نقيضين: اليهودية والديمقراطية، غير أن الوقائع على الأرض، أظهرت أن المشروع الصهيوني يميل أكثر نحو الطابع القومي – الديني على حساب المنظومة الديمقراطية «فالقيم التي بُنيت عليها الدولة تحولت من أدوات وحدة إلى أدوات إقصاء، ومن رموز تعبئة إلى ذرائع قمع».
وأضاف «لقد بات واضحاً أن المجتمع الإسرائيلي منقسم بين تيارات ترى في التوراة مصدراً للشرعية السياسية، وأخرى ترفع شعار إسرائيل الحديثة القائمة على التكنولوجيا والعلمانية. هذا الانقسام لم يعد ثقافياً فقط، بل سياسياً ومؤسساتياً، تسلل إلى الجيش والقضاء والحكومة، حتى باتت كل مؤسسة تعكس هوية تيار أو قبيلة فكرية».
تآكل الهوية وصراع الشرعيات
واعتبر أن أزمة الهوية في إسرائيل «تجلّت في ثلاث صور متوازية، تشمل تراجع الثقة في المؤسسات، خصوصاً بعد سياسات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو التي عمّقت الفجوة بين النخب والجمهور، انقسام المجتمع بين اليهود الشرقيين والأشكناز، وبين المتدينين والعلمانيين، وبين المستوطنين وسكان المدن، وانكشاف زيف الخطاب الديمقراطي أمام ممارسات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، حيث تُقاس القيم الإنسانية بمعيار الهوية القومية لا بمبدأ العدالة».
ورأى أن «كل ذلك جعل إسرائيل دولة تلهث خلف تعريف ذاتها: هل هي دولة يهودية لكل يهود العالم؟ أم دولة مواطنة لليهود فقط؟ أم كيان أمني يتغذى على الصراع ليحافظ على تماسكه الداخلي»؟
التحالفات الداخلية وتبدّل أولويات السلطة
ولفت إلى أن «في السنوات الأخيرة، تحولت التحالفات الحزبية الإسرائيلية من برامج سياسية إلى صفقات بقاء شخصية، ولم يعد الخطاب حول الأمن والاقتصاد هو المحرك، بل إدارة التناقضات بين شركاء متنافرين».
وأشار إلى أن تحالفات نتنياهو مع الأحزاب الدينية واليمينية المتطرفة تكشف عن نزعة براغماتية هدفها الاستمرار في الحكم حتى على حساب تماسك الدولة ومكانتها الأخلاقية، أما المعارضة، فتعاني من تفكك مماثل؛ إذ تفتقد مشروعاً جامعاً قادراً على مواجهة صعود اليمين الديني – القومي، وهكذا تحولت السياسة الإسرائيلية إلى مشهد من الاستقطاب والانتهازية، يغيب فيه الحوار وتحضر لغة الكراهية والتخوين».
الاحتلال كأداة وحدة وانقسام في آنٍ
ومن المفارقات أن الاحتلال الإسرائيلي (القوي) – الذي يفترض أنه رمز القوة والهيمنة – أصبح في الوقت ذاته أداة انقسام داخلي، فبينما يراه اليمين ضمانة للأمن والهوية، يراه التيار الليبرالي عبئاً أخلاقياً وإستراتيجياً يعزل إسرائيل عن العالم «بحسب الدراسة».
وأضافت أن حرب غزة الأخيرة كشفت هذا التناقض بوضوح، فقد توحّد الإسرائيليون تحت صدمة العمليات الأولى، لكنهم انقسموا سريعاً حول أهداف الحرب وحدودها، وحول المسؤولية عن الإخفاقات الأمنية والسياسية، ومع تصاعد الانتقادات الدولية، باتت إسرائيل تواجه أزمة شرعية غير مسبوقة، لا بسبب أعدائها، بل بسبب صورتها أمام نفسها وأمام العالم.
الاقتصاد والمجتمع تحت ضغط الأزمات
وأشارت الدراسة إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي، يعيش اليوم حالة قلق بنيوي. تكاليف الحرب على غزة، وتراجع الاستثمارات، وتوسع الفجوة بين الطبقات، كلها مؤشرات على هشاشة البنية الاقتصادية في ظل الانقسام السياسي.
وتابعت «أما المجتمع، فينزلق نحو تديين متسارع للحياة العامة، مع صعود نفوذ الحاخامات في القرار السياسي، وازدياد الخطاب العنصري ضد العرب داخل الخط الأخضر، هذه النزعات لا تضعف فقط النسيج الداخلي، بل تهدد فكرة»الدولة الجامعة«لصالح مفهوم «الدولة الدينية» المغلقة».
ورأت أن التطورات الأخيرة تكشف أن «إسرائيل تقف أمام تحول مفصلي، فإما أن تعيد بناء مشروعها على أسس مدنية وديمقراطية حقيقية، وإما أن تغرق أكثر في أيديولوجيا دينية – قومية تجعلها رهينة للتطرف الداخلي».
واعتبرت أن «تآكل القيم، وتضارب المصالح، واستمرار الاحتلال، وتراجع الدعم الدولي الأخلاقي، كلها عوامل تشير إلى أن الأزمة الإسرائيلية لم تعد خارجية بل داخلية، وأن خطر التفكك قد يأتي من داخل المجتمع قبل أي تهديد خارجي».
وختم ليرمان دراسته بأن «القراءة المتأنية للمشهد الإسرائيلي تكشف أن الأزمة لم تعد مسألة حكومة أو حزب، بل أزمة هوية وشرعية وكيان. وبينما يواصل الاحتلال إنتاج مبررات وجوده عبر القوة، فإن داخله يغلي بأسئلة لا تقل خطورة: من نحن؟ ولأجل ماذا نعيش هذا الصراع المستمر»؟