تُبارك الولايات المتحدة، فكرة أن إسرائيل لها الحق بـ«الدفاع عن نفسها» بل وحتى «الانتقام» لمقتل أحد جنودها في رفح، مدينة جنوب غزة التي دُمرت بالأرض بالفعل بعد شهور من الاحتلال. لا مكان لعبارة «الانتقام» في لغة الدبلوماسية أو القانون الدولي. ومع ذلك، استخدمها الرئيس دونالد ترامب بلا مبالاة، مانحاً الضوء الأخضر لجيشٍ دمّر بالفعل معظم البنية التحتية في غزة وقتل عشرات الآلاف.
ما يُسمى بـ«الحق الدفاعي»هو قناع أخلاقي لعدوانٍ دائم. لقد أصبح وقف النار، الذي احتفت به واشنطن باعتباره انتصاراً للدبلوماسية، مجرد تمثيلية ووهماً مُخططاً له بعناية للفلسطينيين بضبط النفس. في الواقع، هو هدنة من طرف واحد: تحتفظ إسرائيل بحرية كاملة في الضرب والاغتيال والغزو كما تشاء، بينما يُتوقع من الفلسطينيين التزام الصمت، بل وحتى الامتنان لخضوعهم.
وقد أكد وزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتس، على هذا النفاق بغطرسة، مُعلناً أنه «لن يكون أي من قادة حماس في مأمن»، وهو تصريح يُضفي شرعية فعلية على الاغتيالات خارج الحدود. كانت كلماته إشارةً مُبطنةً إلى الحملة المُتجددة من عمليات القتل المُستهدف في الخارج. بموجب هذا المنطق المُلتوي، فإن وقف النار ليس توقفاً للعنف، بل ترخيصاً للقتل الانتقائي، واستمراراً بطيئاً للحرب مُتنكراً في زي السلام.
في غضون ذلك، تتفاخر الولايات المتحدة بـ«فرض الهدوء»، لكنها في الواقع صممت نظاماً يقتل فيه أحد الطرفين من دون عقاب، بينما يُلام الطرف الآخر على موته. إنها كذبةٌ دبلوماسيةٌ مُفتعلةٌ لإخفاء الإجرام خلف خطاب السلام.
في رفح، تصرفت القوات الإسرائيلية كما لو أن وقف النار غير موجود. أصبح مقتل جندي واحد - في ظروفٍ غامضةٍ وغير مُفسَّرة - مُبرِّراً لهجومٍ جويٍّ وبريٍّ خلَّف أكثر من 100 شهيد فلسطينيٍّ في يومٍ واحد، ثلثهم من الأطفال.
الرسالة واضحة: أرواح الإسرائيليين مُقدَّسة، وأرواح الفلسطينيين قابلةٌ للتضحية. عندما يموت جنديٌّ، يُسمَّى ذلك اعتداءً؛ وعندما يموت 100 فلسطينيٍّ، يُسمَّى ذلك ضبطاً للنفس. لقد حدَّد هذا المنطق كلَّ حربٍ إسرائيليةٍ منذ عام 1948، ولكن نادراً ما أقرَّته واشنطن بهذا الشكل العلني.
خطاب ترامب ليس زلةً معزولةً... لقد أتقنت الولايات المتحدة هذا الخطاب المزدوج على مدى عقودٍ من الحروب العالمية. من العراق إلى أفغانستان، ومن ليبيا إلى غزة. «نعمة» ترامب لإسرائيل ليست سياسة جديدة، بل هي التعبير الصريح عمّا كان قائماً دائماً: تحالفٌ جامح بين السلطة والإفلات من العقاب.
بالنسبة إلى إسرائيل، تُمثّل هذه «النعمة الجديدة بالقتل» فرصةً سانحة. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، المُتّهم بالفساد وجرائم الحرب من قِبَل المحكمة الجنائية الدولية، يستغلّها لضمان بقائه السياسي. في مواجهة معارضة داخلية لوقف الحرب وانقسامات داخل ائتلافه، حوّل نتنياهو غزة إلى حملة انتخابية.
كلّ قصف، كلّ جنازة، كلّ غارة على مخيّم للاجئين تُغذّي روايته عن القوة والتحدّي. يُقدّم نفسه على أنّه الحامي الوحيد لإسرائيل من أعدائها، الخارجيين والداخليين. يُمكن تلخيص شعار حملته الانتخابية بـ «أنا أقتل، إذاً أنا أقود».
النعمة الأميركية تُعطي نتنياهو ما يحتاجه بالضبط: غطاءً دولياً أخلاقياً يتيح له مواصلة قتل الفلسطينيين، مُتظاهراً بالحفاظ على وقف النار. يرى العالم إحصاءات عن «ضربات محدودة» و«عمليات مُستهدفة»، لكن عملياً، هذه مجازر تُرتكب بدقة بيروقراطية.
لم يتغير إيقاع القتل إلا من مجازر يومية إلى «عمليات انتقامية» أسبوعية. لم تعد إسرائيل بحاجة إلى حرب مُعلنة - فقد أسست لصراع دائم منخفض الشدة، صراع يُبقي غزة خانقة والضفة الغربية مُهددة من دون إثارة نفس الغضب الذي يُثيره غزو شامل.
وقف النار ليس هدنة؛ إنه إعادة صياغة للحرب من طرف واحد. إسرائيل تقتل تحت راية ضبط النفس، والولايات المتحدة تدافع عنها تحت راية الدبلوماسية. معاً. المدنيون المدفونون تحت أنقاض غزة ضحايا هذا الخداع اللغوي بقدر ما هم ضحايا القنابل نفسها. ترامب يُقدم نفسه كصانع صفقات وصانع سلام، إلا أن كل «صفقة» يلمسها تُعمّق الصراع. لقد تحولت خطته المبهمة ذات النقاط العشرين لتجديد الشرق الأوسط إلى خارطة طريق للاحتلال الدائم. في عالمه، يُقاس السلام بأمن إسرائيل وحده، بينما يُعامل الوجود الفلسطيني كمشكلة يجب إدارتها. إن «تجديد» المنطقة، في قاموس ترامب، يعني تجديد هيمنة إسرائيل.
عندما يستخدم رئيس أميركي كلمة «انتقام» في ما يتعلق بعمل الدولة، فإنه يتخلى عن آخر ذريعة للعدالة. الانتقام عاطفي، لا عقلاني؛ إنه نقيض النظام القائم على القواعد. إن تأييد الانتقام هو تأييد للفوضى - وعندما تفعل ذلك أقوى دولة في العالم، فإنها تُقوّض ما تبقى من النظام الدولي، والنتيجة هي تشويهٌ للمساءلة.
يُطلب من الفلسطينيين احترام شروط وقف النار التي تنتهكها إسرائيل بملء إرادتها، ولكن عندما تقتل إسرائيل، يدعو العالم إلى «خفض التصعيد». وعندما يقاوم الفلسطينيون، يدعو العالم إلى «الإدانة».
تُعرب الحكومات الغربية عن «قلقها» بينما تُواصل إمدادها بالأسلحة. تنشر منظمات حقوق الإنسان تقاريرَ لا قيمة لها. آلية التواطؤ فعّالة لأنها لم تعد بحاجة إلى الاختباء. لقد أبرزت كلمات ترامب ببساطة ما كان دائماً قاعدةً غير مكتوبة: لإسرائيل أن تفعل ما تشاء، متى تشاء، وستضمن الولايات المتحدة عدم تحمّل أي عواقب.
أصبحت اتفاقيات جنيف مجرد آثار، تُحتذى بها للأعداء وتُتجاهل للأصدقاء. إذا كانت إسرائيل قادرة على قصف المستشفيات في ظل وقف النار، فلماذا لا يفعل الآخرون الشيء نفسه؟
لقد أدركت حكومة نتنياهو هذا الأمر تماماً. وزراء اليمين المتطرف الذين يُحافظون على ائتلافه - رجال يتحدثون صراحةً عن التطهير العرقي والغزو التوراتي - يُفسرون كلمات ترامب على أنها تصديق. يعتقدون أنهم يُنفذون مهمة مُقدسة، لا جريمة. بموافقة واشنطن، يُمكنهم تسريع ضم الضفة الغربية، ومواصلة حصار غزة، ومعاملة أي بقاء فلسطيني على قيد الحياة كتحدٍّ. في لاهوت القوة هذا، يُعادل السلام الخضوع، والتعايش الاستسلام.
المأساة هي أن مُعظم العالم فقد حساسيته. لم تعد صور غزة - الجثث المُتفحمة، والعائلات المُهجّرة، والمساجد المُدمّرة - تُثير الصدمة. لقد خفّف تكرار الرعب من حدة الغضب. صُمّم وقف النار الذي أعلنه ترامب لهذا الإرهاق. إنه يُحوّل الحرب إلى ضجيج خلفي، ويجعل القتل روتيناً والغضب أمراً مُهملاً. أصبحت مجزرة كل أسبوع هي الوضع الطبيعي الجديد، جرعة موت تدريجية تُعطى بجرعات يتحملها العالم.
ومع ذلك، تُولّد هذه الإستراتيجية، تحت السطح، حالة من عدم الاستقرار طويل الأمد. كل طفل يتيم في رفح، وكل منزل يُهدم في خان يونس، يصبح بذرة مقاومة مستقبلية. يخفي وهم الهدوء غضباً متزايداً. لا يمكن لأي جدار أو طائرة منة دون طيار احتواء غضب شعب جُرّد من إنسانيته في شكل ممنهج. كلما قتلت إسرائيل باسم السلام، قلّ السلام الذي ستنعم به.
أصبحت لغة الدبلوماسية لا تُميز عن لغة الحرب.