خارج الصندوق

هدوء حنفكر

26 أكتوبر 2025 10:00 م

الصخب الشديد الحاصل على النفس البشرية من مجريات الأحداث وتسارع الوقائع والتنافس على الترف والعراك الفكري العقيم بين أصحاب الآراء ومشاركات وتدخل وعديمي الآراء، يجعل من الإنسان مختلاً عقلياً ومضطرباً نفسياً كآلة تؤدي الأعمال اليومية من دون شعور ولا إحساس ولا تفكير ولا غاية ولا نية...

لينتج عن ذلك إنسان تزاحمت عليه الأفكار والصراعات الداخلية المؤدية به إلى حرب ثلاثية الأطراف، نفسية، روحية وعقلية. إن استسلم وترك لهذه الحرب تقرير مصير المنتصر... فالمنتصر إذا كان النفس، فهي بالطبع ليست النفس المطمئنة بل الحيوانية بكل متطلباتها الحيوانية. وإن كان العقل وجره خلفه، فالعقل طاحونة يحلل ويفتك بكل ما يجده أمامه لكي يستوعبه ويثبت لنفسه القدرة على من هو أمامه من الأفكار المغلفة بالعقلانية دونما عاطفة.

أما الروح فهي السامي بالإنسان وهي المتضرر الأول والأخير من تلك الصراعات أو تلك الاستسلامات، ولميلها إلى الهدوء والسكينة فقد يكون ذلك بحد ذاته ضرراً على العقل والنفس، إن استسلما للروح كامل الاستسلام.

عندما خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ونفخ فيه من روحه تلك اللطيفة الربانية، جعل معها القلب وتوجهما بالعقل، ليكونوا مثلثاً متكاملاً في جسدٍ واحد، فما تسمو وترقى إليه الروح قد لا يدركه العقل، وما يدركه العقل قد تتثاقل عنه الروح، وما يُكشَف للقلب قد يعجز العقل عنه أو يكون العقل خصماً للقلب، وكل أولئك مدركات لم يدركها الإنسان لقصر نظره وحُكمه على ظاهر الأمور حتى على نفسه أو ربما يستخدم من ذلك ما يوافق إرادته غير الصائبة غالباً إذا لم يدرك أبعاد المزيج الثلاثي في جسده الواحد، وجرّد كلاً منها عن الأخريين.

ومع تعامل الإنسان المادي البحت في الواقع المعاصر والزحام والضجيج والمشتتات العقلية والمخذلات النفسية وصعوبات التفكير والتحليل لمعطيات الأمور ومحاولات إدراك ما لا يلزم إدراكه وفهم ما لا يلزم فهمه وإلزام الإنسان بلزوم ما لا يلزم، جرّده من بشريته ونقائه وفطرته وحتى عقله المدرك المنوط بالتكليف، وساق عقله وقلبه وروحه للحاق بما هو محيط به من مشتتات ومغريات ومسببات الشلل الفكري، جاعلة منه إنساناً لاهثاً لما يُراد له أن يرى وينجز ما يُوهم أنه الإنجاز ويَطلب حريةً بعبوديةٍ موهَمَة هي غاية للعارض ويعمل ما يُطلب منه خدمة للوهم، وكثيراً ما أتساءل، ما هو الوهم؟ وما هي غايته وأهدافه ؟ وكيف لنا أو لي أن أدرك الفرق بين الوهم والحقيقة؟ وهل هو فعلاً وهماً، أنني من كبرت المسألة غاية أو حاجة للكتابة؟

المهم... أعتقد أن العزلة والانعزال عن المجتمع، بل وإحسان الانعزال، بل وإدارة تلك العزلة وإن كانت بمخالطة الناس والصبر على أذاهم، ليس مقروناً بالأذى المحسوس، بل قد يكونُ أذى فكرياً روحياً والتأثر بما لا يوافق المبادئ والأخلاقيات التي نشأت عليها، فالعزلة قلبياً وروحياً وفكرياً، أمر يحتاج إليه الإنسان لجمع القلب الهمة والتركيز على الغاية وتحديد الوجهة والمقصد، وإعادة طرح التساؤلات التي أظن بأهمية وضرورة إعادة التفكير فيها بين الحين والآخر.

فالإنسان المستسلم من دون حضور الباطن قد يفقد إنسانيته وعقلانيته وروحه فيجري مع القطيع بحثاً عن النجاة لا بحثاً عن الحياة. وأما المُسلِّم مع حضور القلب، فقلبه مستقر مطمئن وعقله مفكرٌ وروحه تسمو وترتقي وتحلق بلا قيدٍ ولا حبسٍ مهما تمثلت له الحياة مُثقِلةً مقيِّدةً مُرغِمة.

يهدأ بعزلة قصيرة ويسكن قلبه بخلوةٍ وفكرة خاطفة وتسبيحة بقلبٍ حاضر فيهرعُ بعدها إلى المهام اليومية مستشعراً التلذذ بها وإن لم توافق الهوى ما دامت من مسؤولياته البشرية، ولعل اللذة تكمن في عدم البحث عن اللذة، والمتعة تكون في عدم التفكير في المتعة والنجاة في عدم اللهث وراء الحياة.