خارج الصندوق

أعلن انسحابي

19 أكتوبر 2025 10:00 م

رغم اتساع رقعة الأرض وتباعد أطرافها المترامية، من أقصاها إلى أقصاها ومن أعلاها إلى أدناها، انتشر الناس في الأرض، شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وليتخالفوا ويتقاتلوا ويتصالحوا ثم يتعايشوا ليفرض قويهم سيطرته على ضعيفهم. لتختلف أنواع السيطرة، إما بفرض الضرائب أو استغلال الأراضي أو أسر طاقات الشعوب أو فرض الحماية أو إعطاء جزء، صغر أو كبر من الصناعات والمحاصيل الزراعية والانتاج المحلي، ولعلها تنتهي بأن يكون الضعيف فرداً في جيش القوي يدافع عن وجوده مظلوماً تحت سيطرة القوي، بحرب لا ناقة للضعيف فيها ولا جمل، غير انتصار القوي الذي يزيد في قوته، فيزيد بطشه بمَنْ ناصره فيثبت الضعيف ضعفه بثبات قوة القوي.

أعتقد أن هذا العالم المتسع قد صغر حيزه وضاق وسعه وتعارفت الشعوب والقبائل وأصبح العالم تسوده القوانين والمنظمات والهيئات والحكومات، يسود كلٌ في رقعته وحدوده، وأصبح الحدث لا يبات في أرضه ثوانٍ إلا ذاع وانتشر بل وتناوله المحللون والسياسيون والاجتماعيون المختصون وغير المختصين.

لعلي أرى الأمر بشكل مختلف، لعل أحد أشكال السيطرة حالياً هو مصدر المعلومات والهاتف المحمول الذي تتعدد فيه البرامج والتطبيقات التي جعلت العالم الخارجي أصغر حيزاً مما يبدو عليه وأصبحنا نعرف ما هو مهم وغير مهم وما يلزم وما لا يلزم وما يود القوي إعطاءك إياه وما يريد منعك عنه.

ونعيش مع وسائل التواصل الاجتماعي في عالم افتراضي بل وهمي غير حقيقي شعورياً وفكرياً ووجودياً، وهذا الأمر يعود إلى كونه أحد أنواع السيطرة الفكرية والمعلوماتية المغلفة بصورة الحرية والشفافية والسرعة، فالشعور والتفاعل مع الموجودات القريبة حولنا، أُهمل لا لبعد النظر بل لقصر النظر.

ومن باب الترف لا المعرفة نتابع مسافراً لبلدٍ فنُشد ويعجبنا ما نراه، فنقارن واقع الحال لشخص يستيقظ من النوم ليذهب إلى عمله بعد أن يوصل أولاده إلى المدرسة مؤدياً عمله عائداً بعد ذلك إلى منزله متعرضاً بذلك إلى زحمة الذهاب والعودة متحسراً على حاله المليء بالمقارنات الواهمة، أضف إلى ذلك الوقت الضائع في التفكير المشوش و الذهن المسروق في عالم وهمي مليء بالجدليات المعلوماتية الواهمة بين دراسة أُصدرت وتصريح أعلن وخبر ينشر ولقاء يذاع، من دون التدقيق على المصدر لضعف المتلقي أولاً، والحاجة للسبق الخبري ثانياً، وموكب المشاعر تجاه الأحداث المذاعة ثالثاً، ويقين المسيطر للايكات المتابعين رابعاً.

تغير الزمان فتغيرت أشكال السيطرة، رغم أني أسمع وأرى شعارات برفض السيطرة وعدم الخضوع، وما هو إلا رفض لما أظنه شكلاً قديماً من أشكال السيطرة والذي يرفض المسيطر عليه الاعتراف بخصوعه للشكل الحالي لارتياحه له أو عدم إدراكه للشكل الحالي.

يوازي ذلك حال المجتمع والتعامل مع التكنولوجيا والشكوى من الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي ومنعها على الأطفال من دون الالتفات إلى الطفل الذي بداخلنا وكأن نفوسنا قد بلغت الرشد.

أفكر في الحال التي تجعلنا نذهب إلى فعاليات ثقافية منشغلين بالهواتف والتنقل بين صفحات وسائل التواصل تاركين الاستفادة من الحضور الفعلي الواقعي والمشاركة المعلوماتية، ليكتفي كل منا بصورةٍ تدل على حضوره الفعالية يثبت بها وجوده وعلاقاته مع الشخصيات الحاضرة مستبدلين اهتمامنا بالمنظر دون الجوهر مستبدلين الواقع باللاواقع والوجود باللاوجود.

اعتقد أن عالمنا وزماننا هذا، مهما سُمي بالعالم المتسارع أو الذكي أو غيره من المسميات التي توضع للفلسفة والجدل شغلت البال والذهن والفؤاد واللب، هذا العالم يضيق بي ذرعاً ولا أريد حضوره لأني لا شعورياً أمل من وجودي معه، فأخرج هاتفي من جيبي وأقلب في صفحات التواصل الاجتماعي مضيعاً بعض الوقت الذي جئت لقضائه متواجداً في عالمٍ من عدم الوجود الحقيقي النافع بالتواجد الحسي والمعنوي.

وأدرك أن أصل التواجد هو اللا تواجد والحضور هو مجرد صورة تنشر في وسائل التواصل تثبت الحضور الوهمي، ولأني لا أجد ولا أملك حلاً لهذا الأمر في المجتمع الذي ليس علي إصلاحه إلا نفسي أولاً، وبعد أن اكتشفت بالتفكير الذي أظنه عميقاً أني أحد أفراد هذا المجتمع، وأقول ما يقول وأفعل ما يفعل، فإني وجدت الحل في أن أعلن انسحابي إلى عالمي الخاص الذي لم أعرف منه بعد غير نفسي التي عرفت عنها القليل حتى الآن.