رواية «تانغو الخراب» والواقع العربي

11 أكتوبر 2025 09:30 م

فاز الروائي المجري لازلو كراسنهوركاي، بجائزة نوبل في الأدب لعام 2025، عن مجمل أعماله الأدبية التي تميّزت بالغموض المشوب بالتوتر الإنساني، واليأس الوجودي، والأوهام التي تراود الأفراد والمجتمعات بشأن الأمل والخلاص.

في روايته الأولى والأشهر Satantango، التي تُرجمت إلى اللغة العربية بعنوان «تانغو الخراب»، والتي يمكن أيضاً ترجمتها حرفياً

بـ «تانغو الشيطان»، نجد أن كلمتي «الشيطان» و«الخراب» تفضيان إلى معنى واحد ضمن السياق الرمزي للرواية.

غير أن اختيار المترجم العربي لكلمة «الخراب» يبدو مدفوعاً بدواعٍ أدبية وفنية. أما «التانغو»، فهي ترمز إلى رقصة تتضمن ستّ خطوات إلى الأمام، يعقبها ستّ أخرى إلى الخلف، وهو إيقاع رمزي يُفكّك دلالة العنوان.

قراءة الرواية تبدو في الوهلة الأولى تجربة مملة وغامضة، لكنها في حقيقتها تنطوي على معانٍ عميقة تتطلّب معايشة وجدانية لفهمها.

في «تانغو الخراب»، يروي كراسنهوركاي، قصة قرية صغيرة معدمة هجَرها معظم سكانها بسبب قسوة الحياة، فيما بقي فيها من ظلّ يحلم بالخلاص من خلال ظهور شخصية غامضة تعدهم بمستقبل مشرق. هذا «المخلّص» يتمتع بكاريزما ساحرة، ويجيد التلاعب باللغة وتوظيف مفردات دينية والأعراف الاجتماعية، ما مكنه من النفاذ إلى نفوس سكان القرية.

من خلال هذا النفوذ، استطاع أن ينقلهم إلى عالم من الوهم، عالم يبدو جميلاً ومُطمئناً بالمقارنة مع واقعهم البائس. في المقابل، نرى في الرواية صورة المثقف المنعزل، الذي التزم الصمت خوفاً من مواجهة الجمهور بما يراه من زيف هذا الخلاص وسرابية الوعود.

الرواية تسير ضمن بناء رمزي، فالقرية ليست سوى رقصة تانغو تُقدّم أهلها إلى الأمام نحو حلم زائف، ثم تعيدهم للخلف نحو واقعهم المرير. الرسالة التي يرغب الكاتب، في إيصالها، هي أن البشر يصنعون معاني للأشياء، لكن هذه المعاني لا تعكس بالضرورة الحقيقة. فالانطباع المُتخيَّل قد يغلب الواقع الفعلي، ما يُنتج شعوراً جمعياً باليأس، ويولد رغبة في الخلاص، إما عبر الاستمرار في العيش داخل عالم الوهم، أو من خلال الهروب، أو حتى الانتحار والانكفاء التأملي في عزلة اختيارية.

وإذا ما أسقطنا سردية هذه الرواية على الواقع العربي، فإننا نلمس تمثّلاتها بوضوح في ما يسمى بالحلم العربي، أو الربيع العربي، أو حتى النصر العربي، وكلها مفاهيم انبثقت من كاريزميات شعبوية تتقن تسويق الشعارات، لكنها لا تترجم إلى واقع فعلي، كشعار حزب البعث «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»!

نتيجة لذلك، باتت شخصية المواطن العربي تتسم باليأس والإحباط، مصحوبَين بقدرة مدهشة على تحويل الهزيمة إلى نصر! وهو، أي المواطن، بفضل تلك الأوهام التي سوّقتها له زعامات سياسية ودينية، ثم لاحقاً مشاهير «السوشيال ميديا»، أصبح يعيش تناقضاً حاداً: يتقدم إلى الأمام في عالم من الوهم، ثم يعود إلى الوراء حين يصطدم بالواقع.

وهكذا، لا يجد المواطن العربي أمامه سوى الماضي كملاذ نفسي. يعود إليه ليتغنى ببطولاته وأمجاده، ويعيش فيه عوضاً عن الحاضر المعقّد أو المستقبل المُبهم.

ومن هنا، يتقمّص أدوار الأبطال والفقهاء والشعراء التاريخيين، ويستحضر صراعاتهم، ليسقطها على حاضره كي يخوض بها معاركه الرمزية، حتى مع أبناء مجتمعه بعد أن يقوم بتصنيف الهويات المجتمعية لكي يصنع منها أضداداً يسهل الانتصار عليها شعورياً. وبذلك أصبح الكثير من العرب ماضويين، وهو تاريخ حتى لو صح فإنه حدث زمني قد مضى ولن يعود.

أما المستقبل، فقد خرج من الحسبة، لأنه لم يعد يُرى إلا كاحتمال مستحيل في ظل الإحباط العام. لذلك فأفضل طريقة لإشباع الرضا النفسي هو بالعودة للماضي بأساطيره وحكاياته ورواياته المختلطة بحبكات ألف ليلة وليلة ودليلة ودمنة، وفتاوى وعاظ السلاطين، ونفاق بعض الشعراء.

ليتنا نستفيد من تجارب الشعوب التي واجهت واقعها برؤية مستقلة ناقدة، لا من خلال مخيال يفرضه أولئك الذين يبيعون الوهم العاطفي، تماماً كما فعل بطل الرواية، السيد إيريمياش، الذي جسّد كاريزما المحتال الساحر، الذي يمنح الأمل، لكنه لم يقدّم الخلاص بل عزّز من الشعور باليأس.