يُرسل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رسالة واضحة: إسرائيل الآن قوية بما يكفي، ومسلحة بما يكفي، ومكتفية ذاتياً بما يكفي لتحدي حتى الولايات المتحدة.
ففي مقابلة أجريت معه أخيراً، تفاخر نتنياهو بأن إسرائيل «تتجه نحو الاكتفاء الذاتي الكامل» وأنها «ستواصل مشاركة تقنياتها المتقدمة مع أفضل حلفائها، الولايات المتحدة». كانت الصياغة غامضة عمداً، لكن المعنى كان واضحاً لا لبس فيه. كان نتنياهو يُشير إلى أن إسرائيل لم تعد تعتمد على دعم واشنطن لشن حروبها أو تأمين مستقبلها، وأنها مستعدة للتصرف وفقاً لشروطها الخاصة.
هذا ليس مجرد كلام. فعلى مدار حرب غزة، تلقت إسرائيل أكثر من 21.7 مليار دولار من المساعدات الأميركية، وهو مبلغ ضخم سمح لها بشن واحدة من أكثر الحملات العسكرية تدميراً في التاريخ الحديث. بهذه الأموال، جدد نتنياهو ترسانته من الذخائر الدقيقة، وأعاد تحميل نظام اعتراض الصواريخ متعدد الطبقة، وحصل على مكونات عسكرية حيوية من ألمانيا والمملكة المتحدة. دمّر بأكثر من 200 ألف طن من المتفجرات ما يقارب من 80 في المئة من البنية التحتية في غزة. أُبيدت أحياء بأكملها. أصبحت آلة الحرب الآن مُجهزة بالكامل، ومُحصّنة، ومُستعدة في أي لحظة لصراع طويل، أو حتى لصراع جديد.
رواية مُضللة
إن رواية «الاكتفاء الذاتي» هذه، بالطبع، مُضللة للغاية. فقدرة إسرائيل على شن حرب بهذا الحجم مبنية بالكامل تقريباً على السخاء الأميركي. وفقاً لتحليل جديد أجراه معهد كوينسي ومشروع تكاليف الحرب بجامعة براون، قدمت واشنطن ما لا يقل عن 21.7 مليار دولار كمساعدات عسكرية مباشرة لإسرائيل منذ بدء الصراع في أكتوبر 2023 - معظمها في شكل قنابل وطائرات وصواريخ وأنظمة دفاع صاروخي - مع عشرات المليارات الأخرى في عقود أسلحة مازال يتعين دفعها وتسليمها في السنوات المقبلة.
من دون هذا الدعم الأميركي الضخم، لم يكن بإمكان تل أبيب تدمير غزة في شكل شامل، ولا الحفاظ على الوتيرة العملياتية لضرباتها الإقليمية الأوسع. بعبارة أخرى، لا يمكن تحقيق ادعاء الاستقلال إلا من خلال الاعتماد.
في حسابات نتنياهو، هذا ليس مجرد إنجاز عسكري بل درع استراتيجية. من خلال تقديم إسرائيل على أنها تعتمد على نفسها، فإنه يبني رواية تسمح له بمقاومة أو تأخير أو إعادة تفسير أي خطة سلام مفروضة من الخارج. إذا لم تعد إسرائيل بحاجة إلى أسلحة أميركية أو غطاء دبلوماسي، فلن تحتاج بعد الآن إلى الاستماع إلى المطالب الأميركية. ويظهر هذا الموقف تحديداً في الوقت الذي بذلت الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، جهوداً حثيثة لإنهاء الحرب. فترامب انخرط الآن في شكل كامل في مفاوضات غزة، ليس كوسيط بعيد، بل كوسيط فاعل مصمم على التوصل إلى اتفاق. وقد أرسل صهره جاريد كوشنر والمبعوث الخاص ستيف ويتكوف إلى مصر للإشراف على المحادثات والضغط على الجانبين إلى أن تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار.
وأدى التناغم بين الولايات المتحدة وحلفاء لها في المنطقة، إلى حضور رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني ورئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم كالين إلى حلبة التفاوض، وهي خطوة حيوية بالنظر إلى أن الثقة في نتنياهو، لسبب وجيه، معدومة.
وأشار وجودهما معاً إلى واقع جديد: لم تعد واشنطن تدير الصراع فحسب، بل تسعى إلى تشكيل نتيجته في شكل مباشر. ولقد تضمنت خطة ترامب المكونة من 20 نقطة وقف النار، والإفراج عن الرهائن، والانسحاب الإسرائيلي من غزة، ونزع السلاح، وإعادة الإعمار، وضمانات دولية لـ«حماس». إنها أشمل جهد دبلوماسي منذ سنوات - وهو جهد لا يمكن لنتنياهو تجاهله بسهولة.
انتهاكات نتنياهو
لكن بالنسبة إلى رئيس الوزراء، تُمثل هذه الخطة فخاً. تظل أولويته هي النقطة الأولى: إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين وإعادة الجثث. علاوة على ذلك، يريد الحرية لاستئناف الحرب. وقد قال ذلك صراحةً. بمجرد عودة الرهائن، ينوي مواصلة العمليات ضد «حماس»، وتقويض أي شرط لا يرضيه، ومنع ظهور سلطة فلسطينية قادرة على حكم غزة. إن طموحه يمتد إلى ما هو أبعد من غزة نفسها: يظل المشروع الأيديولوجي «لإسرائيل الكبرى» - التي تشمل أجزاءً من لبنان وسوريا والأردن والعراق... محور تفكيره.
هذه الاستراتيجية المتمثلة في الامتثال الانتقائي والتخريب المتعمد ليست جديدة. لدى نتنياهو سجل طويل في تقويض ااإتفاقيات الدبلوماسية بينما يدعي الالتزام بها. لعب دوراً محورياً في إفشال اتفاقيات أوسلو، التي كان من المفترض أن تُنشئ دولة فلسطينية بحلول عام 2000.
انتهك قرارات مجلس الأمن مراراً، بما في ذلك القرار 1701، الذي أنهى حرب عام 2024 مع لبنان، والذي انتهكته لاحقاً الغارات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية واحتلال أجزاء من جنوب سوريا رغم إعلان دمشق عدم الرغبة في المواجهة.
خلال حرب غزة، عرقل نتنياهو مراراً مقترحات وقف النار التي طرحتها إدارةُ جو بايدن، ما ضمن استمرارَ الأعمال العدائيةَ بشروطه. وقد جعلَ رفضُ حكومته للاتفاقيات الجزئية وإصرارُها على أهداف مُتطرفة التقدمَ شبهَ مستحيل. وقد تعامل نتنياهو مع إطلاق الرهائن - وهو أولوية إنسانية لمعظم الحكومات - على أنه اعتبار تكتيكي، وليس سبيلاً إلى السلام.
لذا، فإنَّ التحولَ في عهد ترامب مهمّ. لم يعد بإمكان نتنياهو الاعتماد على واشنطنَ حذرة ومنقسمة. لقد راهنَ ترامبُ بصدقيته السياسية على إنهاء الحرب، وهو استثمر بشدة في نجاح المفاوضات. وأكد وجودُ كوشنر وويتكوف في القاهرة على جدية المشاركة الأميركية. وأراد ترامبُ نفسهُ أن يكونَ حاضراً عند توقيع أيّ اتفاق - وهي فرصة لالتقاط الصور يخشاها نتنياهو. نجاحَ الاتفاقُ، سينسب إلى ترامب، وليس إلى نتنياهو وكذلك الفضلُ في إنهاء الحرب. وإذا حاولَ نتنياهو عرقلته، فسيُنظرُ إليه ليس كمدافع عن إسرائيل، بل كعقبة أمام السلام.
لهذا السبب، تُعدّ رواية الاكتفاء الذاتي بالغة الأهمية. فبزعمه أن إسرائيل لم تعد تعتمد على الدعم الأميركي، يُمهّد نتنياهو الطريق لتحدّ علني. يمكنه قبول المرحلة الأولى من الاتفاق - إطلاق سراح الرهائن - ثم رفض الباقي، أو إعادة تفسيره، أو تجاهله. يمكنه إبطاء إيصال المساعدات الإنسانية، وتأخير إعادة الإعمار، والحفاظ على وجود عسكري في الممرات الرئيسية في غزة. وإذا ردّت الفصائل الفلسطينية بالقوة، فيمكنه إتهامها بانتهاك الاتفاق، والادعاء بحق «الدفاع عن إسرائيل». كل خطوة ستسمح له بتقويض الاتفاق دون أن يبدو وكأنه يرفضه رفضاً قاطعاً.
على الصعيد المحلي، مازال نتنياهو في وضع جيد لمتابعة هذا المسار. يضم ائتلافه الحاكم متشددين يرفضون أي تسوية، ويمكنه الدعوة إلى انتخابات مبكرة - ربما في غضون أربعة أشهر - إذا لزم الأمر. ومع ضعف المعارضة وانقسامها، لديه فرصة قوية لإعادة انتخابه. لذا، تتوافق الحوافز السياسية مع الأهداف الإستراتيجية: فرفض الضغوط الدولية ليس له تكلفة تُذكر، ومكاسب كبيرة في ذلك.
حجم التدخل الأميركي
يُبرز حجم التدخل الأميركي مدى جسامة المخاطر. يتجاوز الدعم للمجهود الحربي الإسرائيلي المساعدات المباشرة بكثير: فعندما تُضاف تكلفة العمليات الإقليمية والدعم اللوجستي والانتشار العسكري ذي الصلة، يتجاوز الإنفاق الأميركي الآن 31 مليار دولار.
واشنطن ليست متفرجاً بعيداً بل هي مهندسة مركزية للحملة الإسرائيلية، حيث تمول وتمكن الآلة العسكرية ذاتها التي يدعي نتنياهو أنها تجاوزت اعتمادها. يمنح هذا التشابك العميق الولايات المتحدة نفوذاً كبيراً - ولكنه يفسر أيضاً سبب اعتقاد نتنياهو أنه يستطيع تحدي الضغوط دون دفع ثمن باهظ.
كما يعكس تحدي نتنياهو المتوقع تحدياً معاصراً آخر لأجندة واشنطن الإستراتيجية: مقاومة فلاديمير بوتين المستمرة للضغوط الأميركية في شأن أوكرانيا. ولكن هناك فرقاً جوهرياً. فبينما يستطيع بوتين عرقلة الأهداف الغربية عسكرياً، إلا أنه يفتقر إلى نفوذ ذي معنى على السياسة الأميركية أو السرديات الإعلامية.
على النقيض من ذلك، يسيطر نتنياهو على شبكات نفوذ قوية داخل الولايات المتحدة. من خلال حلفائه في الكونغرس، ومنظمات الضغط، ووسائل الإعلام المتعاطفة معه، يستطيع نتنياهو تشكيل الرأي العام، وتقييد المساحة السياسية للبيت الأبيض، وجعل من الصعب على أي رئيس أميركي - حتى ترامب - فرض تكاليف على إسرائيل. هذه القدرة الفريدة تمنح نتنياهو مرونة لا يمتلكها بوتين، وهذا تحديداً ما يجعله يعتقد أنه قادر على تخريب الاتفاق من دون أن يواجه العواقب التي قد يواجهها معظم القادة.
كيف سيرد ترامب؟
يتمتع ترامب، بصفته رئيساً، بنفوذ كبير، لكن نتنياهو يتمتع بنفوذ خاص به. من خلال شبكات الضغط القوية، وحلفاء الإعلام، والعلاقات الوثيقة مع الكونغرس، يمكنه تشكيل الخطاب السياسي الأميركي والحد من خيارات البيت الأبيض. إذا استطاع تصوير المقاومة على أنها مسألة تتعلق بأمن إسرائيل، فقد يتمكن من إبعاد اللوم عن نفسه في فشل الاتفاق وفي المرحلة اللاحقة.
المرحلة الأولى من الاتفاق - إطلاق سراح الرهائن - قابلة للتحقيق. كل من «حماس» ونتنياهو يريدان نجاحها. لكن الخطوات اللاحقة - انسحاب القوات، وإعادة الإعمار، وترتيبات الحكم، والضمانات - محفوفة بالمخاطر. كلّ منهما يُتيح فرصةً للتخريب، وكلّ منهما سيختبر قدرة ترامب على فرض الامتثال. يشير سجل نتنياهو إلى أنه سيستخدم كل أداة متاحة لقلب الشروط التي يراها غير مؤاتية. في النهاية، ليس الاكتفاء الذاتي المُكتسب حديثاً لإسرائيل مجرد تفاخر، بل هو درع إستراتيجية في وجه الضغوط الخارجية.
لقد منح التدفق الهائل للمساعدات الأميركية، وتجديد ترسانة إسرائيل، وتدمير البنية التحتية لغزة، نتنياهو الوسائل اللازمة لمواصلة الصراع حتى من دون واشنطن. وهذا ما قد يجعل المواجهة المقبلة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الأميركي شبه حتمية.
أحدهما مصمم على إنهاء الحرب وتحقيق نصر دبلوماسي؛ والآخر مصمم على مواصلتها وتحقيق مشروع أيديولوجي يتجاوز أي اتفاق. قد يعتقد نتنياهو أن الاكتفاء الذاتي سيسمح له بتجاهل ترامب، لكنه في الوقت نفسه يعزله.
لقد أدى تدمير إسرائيل لغزة إلى تآكل التعاطف العالمي، وتحديها للقانون الدولي زاد من عزلتها، ويُنظر إلى قيادتها السياسية في شكل متزايد على أنها عقبة أمام السلام.
إذا استخدم نتنياهو استقلاليته لتخريب الاتفاق، فإنه يخاطر ليس فقط بقطع العلاقات مع واشنطن، بل برد فعل عنيف أوسع نطاقاً قد يصعب حتى على اللوبي الإسرائيلي القوي احتوائه... ومن هنا ستكشف الأسابيع المقبلة ما إذا كانت خطة رئيس الوزراء ستنجح.