حروف نيرة

الشفتان... حارس اللسان

7 أكتوبر 2025 10:30 م

قال رجل لحكيم: «لِمَ تبخل على الناس بالكلام»؟ فردّ الحكيم «إنّ الخالق سبحانه وتعالى قد خلق لك أذنين ولساناً واحداً لتسمع أكثر مما تقول، لا لتقول أكثر مما تسمع».

هذه العبارة القصيرة تحمل معاني عميقة وفوائد جليلة، فهي ليست مجرد رد عابر، بل درس في الحكمة وفن التعامل مع الحياة.

أول ما يلفت النظر، أنّ الله تعالى وهبَ الإنسان أذنين ولساناً واحداً، وكأن في هذا التكوين إشارة واضحة إلى أن الاستماع مقدَّم على الكلام، وأنه ينبغي للمرء أن يسمع ضعف ما يتكلّم. فالاستماع يفتح للإنسان أبواب المعرفة، ويمنحه فرصة للفهم، بينما الكلام الكثير قد يُورِده موارد الزلل ويوقعه في الخطأ.

قال تعالى في ذلك: «أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ» البلد/ 8-9.

ذكرَ المفسّرون أنّ اللسان نعمة عظيمة للنطق والبيان، وأن الشفتين نعمة أخرى يُستعان بهما على الكلام والأكل والشرب، فهما أيضاً حارس على اللسان، يُغلق بهما إذا أراد الإنسان الإمساك عن القول.

وهنا يضيف الإمام محمد متولي الشعراوي - رحمه الله - لمسة تربوية بديعة، حيث أوضح أنّ الشفتين ليستا مجرد وسيلة للنطق والطعام، بل هما حارس على اللسان، فإذا شاء الإنسان أن يمنع لسانه من الكلام، أطبق شفتيه فانتهى الأمر.

وكأنّ الله تعالى يقول: لقد أعطيتك وسيلة البيان وهي اللسان، ولكن لم أتركه بلا ضابط، بل جعلت له غطاءً (الشفتين) حتى لا يتفلت بالكلام الباطل.

وفي القرآن الكريم تنبيه آخر بليغ على خطورة اللسان: «ما يلفظُ من قولٍ إلّا لديهِ رقيب عتيد» ق/18، فالكلمة محسوبة، والإنسان مسؤول عنها، لذا كان الصمت في مواضع كثيرة سلامة ونجاة.

والصمت ليس عجزاً أو ضعفاً، بل هو دليل على عقلٍ راجحٍ ناضجٍ، فالإنسان الحكيم لا يُكثر من القول، لأنه يعلم أن الكلمة أمانة، وأنها إذا خرجت من فمه أصبحت ملكاً للناس، لا يستطيع استرجاعها، لذلك هو لا يتكلّم إلا بما فيه نفع، ويزن كلماته بميزان العقل والدين.

كما أن الصمت يربي في النفس خلق التواضع؛ إذ كثير الكلام قد يقع في حب الظهور وإثبات الذات، بينما المستمع ينفتح على الآخرين، ويتعلّم منهم، ويُشعرهم بقيمتهم. ولهذا قيل:

(إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب).

إنّ هذه الحكمة البسيطة، مقرونة بالآيات وتفسير العلماء، تُعلّمنا أن نُحسن الإصغاء قبل أن نتكلم، وأن نعي أن الكلام القليل النافع خير من الكثير الفارغ، وأن نصون ألسنتنا كما نصون أعيننا وقلوبنا. فكم من كلمة فتحت أبواب خير، وكم من كلمة جلبت ندماً لا يُمحى!

نسأل الله أن يجعل ألسنتنا عامرةً بذِكره، صادقةً في القول، بعيدةً عن الزلل، وأن يلهمنا الحِكمة في الصمت والكلام، فهو وحده القادر على ذلك.

aaalsenan @