منذ بداية الألفية الثالثة في عصرنا الحالي، ومع التطورات التكنولوجية المتوافرة حالياً، إلا أننا كبشر لانزال في عصر عبودية مبرمجة غير مباشرة تخلق جيلاً يتفنن في انغماسه في العبودية.
ومن أشهر الأمثلة الآن في العالم هي الاحتراق الوظيفي الذي بات حريقاً ممنهجاً يجعل من الإنسان في كل مكان في العالم آلة صماء تتطور مع تطور قوانين مؤسساتية تحت إدارة يفترض أن تكون بشرية، قابلة لدمج الإنسانية بالقوانين الصماء التي لا تتناسب مع الكيان البشري الفطريّ، بل هي أقرب ما تكون للآلة. وبالرغم من أن حتى الآلة لديها حساسية استشعار؛ فإذا تلفت، لا تعطي النتائج المرجوة من قيمة الإنسانية.
يقول الفيلسوف الفرنس ميشال فوكو: «لا تحتاج إلى السلاسل لتقييدك، بل تصنع لك فضاءً لا ترى فيه القيود».
وهذا ما تعيشه البشرية اليوم في مؤسسات تتقن بناء جدران غير مرئية حول العقول قبل الأجساد. فالاحتراق الوظيفي ليس مجرد إرهاق جسدي أو ضغط نفسي؛ بل هو عملية هندسة مسبقة لإعادة تشكيل الموظف ليكون ترساً في ماكينة، بلا صوت، بلا حتى حق في الانطفاء.
تتحوّل الطاقات الخلّاقة إلى وقود يُستهلك بلا رحمة، ثم يُلقى رمادها في ملفات الأرشيف، كأن قيمة الفرد مرهونة بما يضيفه من ساعات عمل، لا بما يحمله من إنسانية أو رؤية. وفي هذا النمط، يصبح الإنسان مشروعاً مبرمجاً على التكيّف، ويُربَّى على تقبّل فكرة أن الاحتراق هو «طبيعي» و«جزء من الالتزام».
المفارقة المرة أن هذه المنظومات التي تدّعي الكفاءة تُعامل موظفيها كآلات، لكنها تتجاهل أن الآلة إذا لم تُصن أو أُفرط في استهلاكها، ستتعطّل. لكن هنا، التعطّل البشري لا يُرى كخسارة، بل كفرصة لاستبدال الفرد بآخر، وكأننا قطع غيار في مخزن لا ينفد.
هكذا يصبح الحريق الممنهج سلخاً للروح قبل الجسد، وصهراً للفطرة في قوالب جامدة، حتى يغدو الفرد كائناً مؤسسياً منزوع الحلم، مدرّباً على أن يبتسم وهو يحترق.
إن «عبودية الوظيفة» اليوم تتجاوز حدود الالتزام أو الطموح لتصبح قيداً لا مفر منه، مبنياً على أساس الحاجة المادية، حيث يصبح الكفاح من أجل تأمين الطعام والشراب، وهما أكثر الحاجات الأساسية في سلم عالم النفس الأميركي أبراهام ماسلو، سجناً يحدّ من حرية الإنسان ويقيده في دائرة من الاستمرارية القسرية.
فالعمل لم يعد وسيلة لتحقيق الذات، بل صار ضرورة بائسة للبقاء، وهذا يجعل من الاحتراق ليس مجرد حريق ممنهج بل مأساة مستمرة تُشعل نيران الاكتئاب بألوانه المتعددة في أعماق النفوس، معتمدة على القوة البشرية الفردية التي تُستنزف بلا رحمة.
وبينما يحترق الإنسان، لا يقدر على الانطفاء أو الاستراحة، لأن فقدان القدرة على الاستمرار يعني فقدان الأمن، وهو الخوف الأكبر الذي يقيد الإرادة ويعزل الروح في قفص لا يُرى إلا من خلال ظلال الألم النفسي المتراكمة.
هكذا، تحولت الحاجة إلى الأمن المادي إلى طوق يُكبّل الإنسان، يحوّله من كائن حي يتمتع بالكرامة إلى آلة مهددة بالتلف، ينهشها حريق ممنهج، لكن لا يُسمح لها أن تسقط، بل يجب أن تستمر في الدوران ضمن ماكينة الحياة الباردة.
وفي هذا الإطار، يصبح الاحتراق الوظيفي في مختلف الدول بمثابة شهادة وفاة لذات الإنسان، وتأكيداً على مأساة العصر الذي لا يرحم، حيث يُسلخ الفرد من روحه تحت غطاء استمرارية البقاء، ويُجبر على العيش في جحيم مُبرمج لا مفر منه.
وفي النهاية، يبقى الإنسان مشتعلًا في نيران وظيفته، لا ليُضيء طريقاً، بل ليحترق صامتاً، كشمعة تذوب في ظلمة قاعة فارغة، حيث لا صوت سوى صدى ألمٍ لا ينطفئ.