أعلن الجيش الإسرائيلي رسمياً، بدء المرحلة الثانية من حملته، «عربات جدعون 2»، مؤكداً أن فرقتين كاملتين مُلتزمتان الآن بالعمليات في مدينة غزة، بينما ما زالت فرقة ثالثة في حال تأهب، مُستعدة للانضمام.
يُمثل هذا القرار انتقالاً من القصف الجوي إلى هجوم بالأسلحة المُشتركة، مُصمم ليس فقط للسيطرة على الأراضي، بل لتغيير النسيج العمراني في غزة جذرياً.
مع تكثيف القصف إلى مستويات غير مسبوقة، تلتقي العقيدة العسكرية والحسابات السياسية في إستراتيجية قد تمتد لستة أشهر على الأقل قبل أن تُحتل مدينة غزة بالكامل.
تبدأ كل حملة عسكرية حديثة بقصف تمهيدي مُصمم لإضعاف المقاومة، وتدمير البنية التحتية، وتشتيت انتباه المُدافعين. وقوات الاحتلال ليست استثناءً. على مدار الأسابيع الماضية، دمر سلاحها الجوي في شكل منهجي 60 مبنى متعدد الطوابق - هياكل يزيد ارتفاعها عن سبعة طوابق - ما أدى إلى إزالة نقاط المراقبة ومراكز القيادة والمعاقل المحتملة لمقاتلي «حماس»، ولكن الأهم من ذلك كله، إقناع السكان بالفرار.
ما تبقى هو كتل سكنية منخفضة ووحدات تجارية، ما يشكّل تحديات مختلفة للقوات الآلية التي تتقدم عبر الشوارع والأزقة الضيقة.
تشير كثافة القصف في الأيام الأخيرة إلى دورة تقليدية قبل الهجوم. فبينما تقصف المدفعية والغارات الجوية القطاعات الحضرية، فإن الهدف ليس فقط خلق صدمة تكتيكية، بل تمهيد الطريق لدخول الآليات.
ويعكس إصرار إسرائيل على القوة النارية الساحقة التكتيكات السوفياتية في أفغانستان، والنهج الأميركي في الفلوجة والموصل، واحتلال إسرائيل لرفح - ما أدى إلى تحول المدينة إلى أنقاض قبل أن يتوجه المشاة والمدرعات.
الروبوتات كوحدات صدمة
من الابتكارات اللافتة في النهج الإسرائيلي الحالي استخدام ناقلات جند مدرعة من طراز M113 معدلة، وإعادة تشكيلها على شكل مركبات آلية محملة بأكثر من خمسة أطنان من المتفجرات. صُممت هذه الآلات للتقدم أمام القوات البشرية، وتفجير المباني، وهدم الهياكل التي قد تُخفي كمائن أو مخارج أنفاق.
ينبع هذا التكتيك من تجربة قاسية: فخلال المراحل الأخيرة من غزو العام الماضي لأجزاء من غزة، تكبد مهندسو القتال الإسرائيليون المكلفون بوضع العبوات داخل الهياكل خسائر فادحة. وقد أقنعت حوادث عدة لفرق بأكملها - دُفنت أحياءً تحت الأنقاض المنهارة أو هجمات المقاومة - الجيشَ بتغيير أسلوب الاقتحام.
ومن خلال تحويل M113 القديمة إلى منصات هدم آلية، يأمل الجيش في تقليل خسائر القوات مع تعظيم الكفاءة التدميرية. بالنسبة إلى سكان غزة، فإن النتيجة لا يمكن تمييزها عن القصف الجوي: طبقة أخرى من الدمار تفرضها الآلات، وهدفها ليس الدقة بل الإبادة، ما يجعل مدينة غزة غير صالحة للسكن ويترك السكان بلا مكان يعودون إليه.
الوتيرة المدروسة للتقدم
رغم قوتها النارية الساحقة، اعتمدت قوات الاحتلال إيقاعاً حذراً متعمداً. يُقدّر المخططون العسكريون الآن أن احتلال مدينة غزة سيستغرق ما لا يقل عن ستة أشهر، وهو تقديرٌ حُدد بكثافة التضاريس الحضرية وحجم السكان المدنيين الذين ما زالوا موجودين.
ما زال نحو 800 ألف فلسطيني في المدينة، بينما فرّ ما يقارب من 200 ألف شخص بالفعل في الأسابيع الأخيرة - وهم جزءٌ ضئيل من إجمالي النازحين.
يُقيّد استمرار وجودهم حرب المناورة: لا تستطيع الألوية المدرعة الزحف عبر الممرات الضيقة دون إثارة إدانة دولية، ويواجه المشاة خطر الكمائن في الأحياء شبه المأهولة بالسكان. وللتغلب على هذا، يُوسّع نطاق القصف في جميع أنحاء المدينة، بهدف ليس فقط تحييد «حماس»، بل أيضاً إرهاب المدنيين ودفعهم إلى الفرار.
مع ذلك، فإن غياب المدنيين ليس عيباً بالنسبة إلى المقاومة. بل على العكس، تُتيح الأحياء الخالية للمقاتلين فرصة نصب الكمائن للوحدات المتقدمة داخل المباني، ونصب الفخاخ، وإطلاق النار كما يحلو لهم دون خوف من وقوع إصابات جانبية.
ومع ذلك، لا يوجد ملاذ آمن لسكان غزة الفارين من منازلهم. لقد استُهدف كل قطاع من قطاعات القطاع، ولم يُسفر النزوح سوى عن نقل العائلات من منطقة مُدمرة إلى أخرى. إن غياب الممرات الآمنة يجعل الإخلاء ضرباً من الخيال، مُجبراً الناس على النزوح الدائم.
وهكذا، صُممت الحملة المُكثفة للتدمير لإخلاء أحياء بأكملها من السكان، ما يُنشئ ساحة معركة حضرية يُمكن للانقسامات فيها المناورة بحرية أكبر. وبهذا المعنى، تتداخل الأهداف العسكرية ومنطق التطهير العرقي، بسلاسة.
الغطاء السياسي الأميركي
لا يُمكن فصل توقيت هذه المرحلة الثانية عن الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو إلى إسرائيل. فُسِّر تصريح روبيو - بأنه إذا فشلت الوسائل السلمية في تفكيك «حماس»، فستكون الوسائل العسكرية ضرورية - في تل أبيب على أنه ضوء أخضر.
فهو يُوفر لنتنياهو الشرعية الأميركية التي يحتاجها لتوسيع نطاق الهجوم دون خوف من انتقاد واشنطن. الرسالة واضحة لا لبس فيها: الدعم الأميركي لا يزال راسخاً، حتى مع وصف منظمات حقوق الإنسان الدولية للحملة بالعقاب الجماعي.
مع تأمين الغطاء السياسي الأميركي، تتمتع إسرائيل بحرية مواصلة حصار مدني مطول، واثقة من أن دعوات ضبط النفس من أوروبا أو الأمم المتحدة ستظل رمزية إلى حد كبير.
يُعد التوقيت أيضاً مناسباً سياسياً لبنيامين نتنياهو. ففي يوم إعلان الجيش، مثل أمام المحكمة لحضور جلسات استماع تتعلق بقضايا الفساد المستمرة - وهي جلسات غادرها في منتصفها مع ورود أنباء هجوم مدينة غزة.
يتبع هذا نمطاً مألوفاً حيث صعّد نتنياهو العمليات العسكرية أو أذن بعمليات اغتيال مستهدفة تزامناً مع جلسات المحكمة، ما يصرف انتباه الرأي العام عن خطره القانوني.
علاوة على ذلك، يتعامل رئيس الوزراء مع هذه المرحلة بصبر متعمد ومن دون استعجال. ففي مواجهة محاكمات الفساد وعدم الاستقرار السياسي، يدرك أن الحرب تُوفر تشتيتاً ورأس مال سياسياً في آن واحد. يسمح له جدول زمني للاحتلال مدته ستة أشهر بتوسيع نطاق سردية بقائه في السلطة، مع إبقاء خصومه متشظين، مع ترسيخ سلطته كقائد في زمن الحرب.
يرى نتنياهو أن الإستنزاف العسكري أفضل من الاحتلال السريع. يسمح له الإيقاع البطيء بضبط وتيرة التدمير، والادعاء بالتقدم تدريجياً، والحفاظ على صورة السيطرة. الغضب الدولي قابل للاحتواء طالما ظل الدعم الأميركي قائماً... في هذه البيئة، يمكن لنتنياهو مواصلة حملة احتلال استنزافي بوتيرته الخاصة.
جغرافية غزة ومنطق الخراب
تُضخّم جغرافية مدينة غزة هذه التحديات. الأحياء المكتظة، والأنفاق المتشابكة، والشوارع الضيقة، كلها عوامل تُصب في مصلحة المدافعين. من خلال تسوية المباني مسبقاً، تأمل قوات الاحتلال في تجريد «حماس» من الغطاء مع توسيع مسارات الأرتال المدرعة.
ومع ذلك، تأتي هذه الإستراتيجية بتكلفة باهظة: تدمير مشهد حضري دمرته الحروب المتكررة. يُذكرنا هذا النمط بغروزني في التسعينات أو حلب عام 2016، حيث حوّلت القوة النارية الساحقة مدناً كانت مزدهرة إلى أراضٍ قاحلة.
بالنسبة إلى إسرائيل، هذا ليس ضرراً جانبياً بل جزء من التصميم العملياتي: الحرب كوسيلة لإعادة رسم خريطة الفضاء الحضري، وتهجير السكان، وترك مناطق يمكن فرض السيطرة العسكرية عليها بسهولة أكبر.
بمجرد أن تتوغل القوات البرية في عمق مدينة غزة، ستعتمد قوات الاحتلال على تكتيكات مُشتركة: الاستطلاع الجوي، وابل القصف المدفعي، والدخول التدريجي للمشاة بدعم من وحدات ميكانيكية. ستسبق الروبوتات القوات البشرية، وتهدم المباني التي تُعتبر تهديداً. ستشق الجرافات المدرعة ممرات عبر الأنقاض، مما يُمكّن التقدم البطيء للفرق المُكلفة بالسيطرة على الأراضي قطاعاً تلو الآخر.
هذه ليست حرباً خاطفة، بل حرب حصار منهجية. الهدف هو استنزاف قدرة «حماس» على المقاومة، وإخلاء المناطق المتنازع عليها من السكان، وتحويل مدينة غزة إلى مساحة مُسيطر عليها تحت إشراف إسرائيلي. ستتخلل كل مرحلة قصف مكثف لإبقاء المدافعين في موقف دفاعي.
العجز الدولي
إن شلل المجتمع الدولي يُعزز شعور نتنياهو بالإفلات من العقاب. ما دامت الولايات المتحدة تحمي إسرائيل دبلوماسياً، فإن خطر العقوبات أو التدخل ضئيل.
بالنسبة إلى الفلسطينيين، يعني هذا أن البقاء يعتمد على التحمل والصمود في ساحة المعركة بدلاً من الإنقاذ الخارجي. ما زالت الممرات الإنسانية مغلقة، وإعادة الإعمار مستحيلة، واحتمال عودة النازحين يزداد بُعداً. تُعاد صياغة غزة ليس عسكرياً فحسب، بل ديموغرافياً أيضاً، حيث يُستخدم التهجير كتكتيك وإستراتيجية.
المقاومة والاحتلال ومنطق القوة
المرحلة الثانية من «عربات جدعون 2» ليست تصعيداً مفاجئاً، بل استمراراً لخطة مُخطط لها. يكشف اعتماد إسرائيل على القوة النارية الساحقة، ووحدات الهدم الآلية، والجدول الزمني المطول، عن إستراتيجية تركز على التحول الشامل أكثر من التركيز على النصر الفوري. سيتم تفكيك مدينة غزة، وإخلاؤها من سكانها، وإعادة بنائها تحت السيطرة الإسرائيلية، بغض النظر عن التكلفة البشرية.
تتقدم آلة نتنياهو الحربية بمباركة واشنطن وعجز المؤسسات الدولية. لذا، فإن الحصار البطيء لغزة ليس مجرد حملة عسكرية، بل هو إختبار لمدى إمكانية استمرار التطهير العرقي تحت غطاء سرديات مكافحة الإرهاب.
بالنسبة إلى سكان مدينة غزة المتبقين، والبالغ عددهم 800 ألف نسمة، فإن المعركة ليست مجرد مدينة، بل هي من أجل حقهم في الوجود داخلها.