في عالم تسوده الأزمات الجيوسياسية والاضطرابات الاقتصادية، يعود شبح السلاح النووي ليلوح في الأفق مجدداً... فبين التصعيد في أوكرانياً والتوتر في بحر الصين الجنوبي، يبدو أن فكرة «الردع النووي» باتت أقرب إلى الاستخدام الفعلي من كونها مجرّد تهديد.
منذ الحرب العالمية الثانية، شكّلت الأسلحة النووية «توازن رعب» بين القوى الكبرى. إلا أن ما يُقلق اليوم هو انتقال الخطاب النووي من مجرّد استعراض للقوة، إلى تهديدات صريحة؛ روسيا، مثلاً، ألمحت مراراً إلى إمكانية «اللجوء إلى خيارات إستراتيجية غير تقليدية» في حال تهديد أمنها القومي؛ وفي المقابل، تُجري الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية مناورات دفاعية تحاكي ضربات نووية محتملة من كوريا الشمالية.
هذا التصعيد لا يُشير فقط إلى خطر استخدام الأسلحة النووية بل إلى انهيار منظومة الردع التقليدية التي بُني عليها النظام الدولي منذ الحرب الباردة...
اليوم هناك خطر حقيقي لحدوث هجوم نووي يُشعل مزيداً من الهجمات مما يهدد بحرب نووية عالمية لا تذر ولا تُبقي. إنه سيناريو مخيف لكننا اليوم نرى أولى علاماته المؤدية لهذا الخطر العظيم، ومن أهم علاماته تعدد الأطراف النووية خارج المعاهدات الدولية، فدول مثل كوريا الشمالية، الهند، باكستان، وإسرائيل - تمتلك ترسانات نووية خارج مظلة «معاهدة الحد من الانتشار النووي».
هذا التعدد يجعل السيطرة على الموقف أصعب من أيام «الحرب الباردة الثنائية»، التراجع عن الالتزامات الدولية وتهديد بعض الدول بالانسحاب من الاتفاقيات النووية (مثل الاتفاق النووي الإيراني)، أو تعليق التعاون في مراقبة الأسلحة (مثل انسحاب روسيا من معاهدة «ستارت») يعزز خطر الانفلات النووي.
ولعل من أكثر المخاطر المستقبلية هو الخطر السيبراني، فالتطور الرقمي يعني أن أنظمة الأسلحة النووية عرضة للاختراق أكثر من أي وقت مضى، ما يفتح الباب لسيناريوهات قد تكون خيالية اليوم لكنها قد تحدث غداً.
فقرصنة أنظمة التحكم بالأسلحة النووية الموزعة على أراضي الدول الكبري ليس خيالاً سينمائياً بل هو رعب قادم، فالصراع بين عقول الشر ومالكي المنظومة السرية لتلك الأسلحة لن يتوقف وقد تنجح بعض العقول الشريرة في تلك الحرب الافتراضية وتتم السيطرة على شيفرات السلاح النووي من خارج منظومة المالكين لها.
إن استخدام سلاح نووي -حتى «تكتيكي» صغير- لا يُنهي الحرب، بل يفتح بوابة الجحيم، وربما يؤدي هذا إلى سقوط مئات الآلاف من القتلى الفوريين كما يؤدي إلى تلوث إشعاعي لعقود طويلة، ومن الاحتمالات القوية الملحقة للاستخدام السلاح النووي زعزعة الاقتصاد العالمي بسبب الهلع وقد ينتهي بانتقام نووي مضاد يقود إلى دمار نووي للعالم.
ومن أهم المخاطر التي تزيد من احتماليات الحرب النووية انهيار منظومة الأخلاق وانتشار الظلم، فحين يرى العالم بأسره ما تفعله إسرائيل بأرض فلسطين ومقدار القتل الجماعي والتدمير في الهجمات الإسرائيلية على شعب محاصر فهذا يؤدي إلى انتهاء المنظومة الأخلاقية الرادعة للقتل الجماعي مما يبرر استخدام أدوات القتل الشامل مثل استخدام الأسلحة النووية.
ورغم سوداوية المشهد، لايزال هناك أمل في النظام الدولي وقياداته لتجنب هذا السيناريو المخيف، فتفعيل القنوات الدبلوماسية بين القوى الكبرى وإعادة التفاوض على معاهدات الحد من التسلح وتعزيز الشفافية والإنذار المبكر لتجنّب سوء الفهم بين الدول مع تفعيل دور المجتمع المدني والإعلام في كشف خطورة الخيار النووي على البشرية جمعاء...
كل تلك السبل مهمة في التقليل من مخاطر الصدام النووي ولكنها لن تُغني عن أهم سبيل مازالت القوى الكبرى تتجاهله.
إنه مبدأ الردع الأخلاقي على مستوى العالم، فإيقاف دولة كإسرائيل، إيقافها عن القتل الجماعي وتجويع شعب محاصر وهدم المنازل فوق رأس المدنيين، إيقاف ذلك سيعزز الردع الأخلاقي لاستخدام أسلحة الدمار الشامل، ويعزز الأمن الدولي وينقل المسؤولية من أيدى أصحاب القرار إلى كل إنسان يعيش على هذه الارض وهو ما يمكن تسميته بالردع الشامل في مواجهة الدمار الشامل...
هذه هي الحلول الرادعة وهي مسؤولية النظام الدولي والقوى العظمى والمجتمع المدني، فإذا لم تتحمل تلك القوى مسؤوليتها فسوف تتحمل نتائج انهيار كل شيء حولها.