قلم أحمر / الأناقة والبساطة عنوان لأميركا العملاقة

1 يناير 1970 06:55 ص
| تكتبها : ليلى أحمد |

ختمت مقالي الاحمر الاسبوع الماضي بوعد بالكتابة عن مشاهداتي الجديدة في نيويورك... الا إنني اكتشفت إنه فاتني الكثير مما شاهدته في العاصمة واشنطن... فليس اكثر إبهارا من «كاتدرائية واشنطن الوطنية». فهي أكبر كاتدرائية في العالم بدأن في 29 سبتمبر عام 1907 عندما تم وضع حجر الأساس من قبل الرئيس تيودور روزفلت. وانتهت في سبتمبر 1990 إيذانا بنهاية ثلاثة وثمانين عاما من البناء. على مساحة شاسعة من أرض مرتفعة تحيطها الجنائن الخضراء. كل هذا جاء ليس من الحكومة لذا طال أمد بنائها إنما من تبرعات الشركات والافراد لبناء الكاتدرائية. والتي هي تحفة معمارية عالية... سامقة تضم تحت معمارها المميز كل الطوائف المسيحية من أكبرها الى أصغرها، وكل له «المذبح» وهو مكان الصلاة الخاص به، وهذا المكان هو عنوان التسامح وقبول الآخر مهما كانت طائفته يوحدهم سيدنا المسيح عليه السلام وإن اختلفت اساليب العبادة وطقوسها وافكارها وطرائقها الا انه في النهاية يصلّون جميعا بروح واحدة ليعبدوا ربا واحدا.

هنا... تجد النفوس في قمة صفائها وعذوبة ابتسامتها المعبرة عن سلام الروح، هذه الكاتدرائية التي تجد بها كافة اشكال فنون النحت... والايقونات... والتماثيل المعبرة عن العشاء الاخير لسيدنا المسيح و تماثيل للكهنة والرهبان وللسيدة مريم العذراء وقصص اخرى من الانجيل المقدس، كما نجد الزخارف على الجوانب والاسقف والزجاج «المعشق» الملون... وتسمع أيضا الموسيقات المرافقة للكورال الغنائي وتجد الازياء المتنوعة للمتدينين المسيحيين باختلاف مراتبهم... هو مكان شاسع بحجم الحب الذي يريده الله جلت قدرته لجميع البشر.

من الذي انشأ سور الصين العظيم... انه امبراطور - عملها - قبل ثلاثة آلاف سنة حتى احتسب هذا السور من عجائب الدنيا السبع... امبراطور قام بتوحيد مختلف الاطياف والقوميات الصينية وضمها تحت جناح المارد الأحمر... في السبعينات اكتشفوا تحت الارض تماثيل لثلاثة آلاف جندي صيني من الفخار ومواد اخرى معمرة وكلهم مختلفو الملامح الا انهم جميعهم يندرجون تحت مظلة العرق الأصفر... هو اراد أن يخلد نفسه لسنوات طويلة حين تكتشف المقبرة التي دفن معها تماثيل الحرفيين واصحاب المهن و الموسيقيين المرافقين لجنود الحرب والكتبة ليخلد نفسه... وفعلا... هذا ما حصل في استضافة متحف «ناشيونال جيوغرافي» في واشنطن العاصمة لعدد من التماثيل التى جلبت من مواقعها... وحتى مجسمات بشرية صغيرة لكيفية صناعة الاحصنة والتماثيل البشرية، وهذا المتحف الكبير الذي يتكون من مبنيين مستقلين له باحات تعرض به الحشرات والحيوانات وجذوع الاشجار على اعتبار انها عنوان لمحطة «ناشيونال جيوغرافي» العلمية التوجه.

في الطرقات الى المتاحف شاهدت معارضة منظمة حماية البيئة خلف البيت الابيض حضرت الشرطة لتساعد على نزول المعترضين الذين صعدوا الى واجهة احد المباني والهدف من اختيارهم لهذا المكان خلف بيت الرئيس لتوصيل رسالة احتجاجية للرئيس أوباما... لكونه لا يولي اهمية كبيرة في خطاباته لحماية البيئة... والاحتباس الحراري... اعتصام سلمي من أفراد يتبعون منظمة إنسانية انتهت بسلام بعد ان صورتهم محطات التلفزيون والصحافة الاميركية وعلى صعيد الاعلام... لابد ان ترى في كل الامكنة العامة كالشوارع والحدائق والباحات والمطارات الداخلية وكل مكان... كاميرة ومذيعة وطاقما فنيا ينقل حدثا من الشوارع، لصالح إحدى المحطات التلفزيونية... وهو أمر تواصلي مهم مع مجتمعهم المدني.

هل أميركا فقيرة... طبعا لا... الا تملك قدرة على بناء القصور...بلى تستطيع و...نص فحين تلتفت ليمناك تجد البيت الابيض وهو مقر رئاسة أغنى بلد بالعالم، وبيت عائلة الرئيس الاميركي تجده في قمة البساطة المعمارية... ولا يشبه قصر «بيكنغهام» لتاج العرش البريطاني الملكة اليزابيث الثانية المحروس من رجال أشداء لا يرف لهم جفن ويرتدون أزياء موروثة من زمانهم الغابر... ولهم طقوس التغيير والحركة بشكل دقيق لا ينفصم عن ساعة «بيغ بن» الشهيرة... كل شيء لدى الانجليز ملفوف بتقاليد عريقة... ومازالت السيدة اليزابيث تركب «الحنطور» المذهب بفخامة في المناسبات الدينية والاجتماعية الكبرى.

قصر «بيكنغهام» مبانيه عالية وقديمة في اشارة لتاريخ الاسرة المالكة الموغل في القدم محاط بأسوار حديدية سوداء عالية تتجلى به التقاليد البريطانية العريقة في الحرص على الغموض والسرية والخصوصية... وهو يحمل في طياته حرص الانجليز على مظاهر العظمة والايحاء بها وتوصيلها لك... لانهم - كانوا- في يوم من الايام سادة العالم وكانت امبراطوريتهم التي تحتل بلادا عديدة من الشرق الى الغرب وحتى أميركا اللاتينية امبراطورية لا تغيب عنها الشمس، «بيكنغهام»... صورة لمظاهر القوة والعظمة مع ان دورها -العظيم - انتهى في اغلب قارات العالم بعد نشاط حركات التحرر الوطني في البلدان المحتلة من التاج البريطاني، وحصول تلك البلدان على استقلالها عن بريطانيا، واخذت دورها اميركا القوة القائدة والضاربة والحية التي ورثت إمبراطوريتهم وإن كان بأشكال أخرى وجديدة.

مبنى البيت الابيض في العاصمة واشنطن لا يطلق عليه اسم «قصر» بل... بيت وهو اشبه بمنزل عادي يقع على بعد أمتار من الشارع العام يمتد عرضيا مكون من طابقين وسط حديقة من بساط أخضر لا بهرجة به والسور المحاط به بسيط وصغير وسهل تسلقه... لم أشاهد حرسا ولا حتى جنديا واحدا، انه بيت ومقر أعظم رئيس على الارض وهذا الايحاء الذكي المتواضع يدل على ان اميركا التي لا تعتمد على تاريخ طويل عمرها اربعمئة عام ليس لديها تاريخ طويل «تكشخ» به وتستعرضه خصوصا ان شعبها مكون من خليط أجناس بشرية جاءوا من كل مكان بالارض ليستوطنوا الارض الجديدة... أميركا...

إضافة الى انها من خلال هذا البيت المتواضع تشير الى طبيعة الشعب الاميركي البسيط، والذي لا يحب المظاهر البراقة... فيما تجد في دول البؤس بالعالم العربي... قصورا فخمة تنبع من الرغبة المحمومة في إظهار عشق المظاهر والتأكيد على الطبقة الاجتماعية المترفة... كل هذا في بلاد لا تنتج شيئا... بلاد لا تصنع شيئا لمستقبلها «موقتة» سيجرفها التاريخ ذات نهار آت.

أميركا سيدة العالم... وصاحبة قرار بؤس الشعوب أو رخائها يقدمون انفسهم بكل تواضع انساني لذا... فحتى مليونيرية اميركا في أغلب الولايات التي زرتها لانجدهم الا في بيوت من دور أو دورين محاطة بحديقة عشبية جميلة. هناك باختصار عقل مدبر لإدارة العالم وليس بالضرورة أن يرتبط بالمظاهر والشكل الباذخ.

الضرائب التي تقتطع من رواتب الشعب لا تذهب هدرا، فالشوارع مرتبة ومسفلتة بشكل ناعم ومزروعة الجوانب بالزهور والاشجار كما تتوافر انارات جانبية جميلة كما ان البلديات المحلية تزين الشوارع بزينة أنيقة وراقية في الشوارع العامة بمناسبة عيد الميلاد المجيد... وجرافات الثلج تكرف فقط الشوارع الرئيسية... وحين تدفع الضريبة فالحكومة توفر لأطفالك حدائق واسعة بها ألعاب متنوعة ومقاعد لجلوس الاهل، فحتى بالغابات يمكنك حجز مكان لمزروعاتك المفضلة... ادفع وستجد مكانا مرتبا لك...

كما اوجدت طرق مواصلات عصرية مريحة، سواء في داخل العاصمة وفي جميع الولايات الاميركية الاخرى - عن طريق الباصات السيارة أو... «الصبوي» تحت الارض، والقطارات التي تنقلك الى ولايات اخرى، أنت هنا حين تدخل في محطة قطار واشنطن تجد ابهة المعمار واتساعه وجماله ونظامه وضخامته.

كما ان المجمع السكني الذي كانت تقيم به ابنتي نينار... غالي الإيجار لانه يقع وسط المدينة به «سيكيورتي» و«ريشبسن»... ومقاعد مريحة وزرع أخضر في لوبي المدخل... ونار موقدة لتدفئك حال دخولك للمجمع... إضافة الى الخدمات الاخرى التي تحتاجها لتصليح البايبات المائية والشؤون الكهربائية في شقتك... إن ما تدفعه تحصل عليه في خدمة مميزة...

في رواية المعطف للكاتب الروسي غوغول... كان البطل موظفا شديد البراءة يواجه انكسارات الحياة بسبب فقره وهو - على نياته - يتعرض لمقالب من زملائه الموظفين وفي احدها يدعى لحفل كبير فيذهب وهو يركب مقعدا على مزلاج تقوده الكلاب في صقيع روسيا... و في طريق العودة وفي مقلب لا إنساني يسرق أحدهم معطفه الوحيد الذي جمع له عبر سنوات طويلة روبل على روبل ليخيط له واحدا يدفئه ويحميه من صقيع البرد فتكون النهاية جنونا يصيبه... هنا في الشوارع بواشنطن غابت ملامح المدينة وتغطت بالثلوج... نرى الاطفال يلعبون بمرح فوق زلاجات بلاستيكية او ان احد الوالدين يجرهم بحبل قطني قوي...

اصطحبتني ابنتي الى الجامعة الاميركية في دي سي... للحصول على نتائج امتحاناتها الاخيرة، كل جزء بهذه الجامعة هي من التبرعات من القطاع الخاص الذي له دور مذهل في المساهمات المالية لجميع منظمات المجتمع المدني... لاحظت بوسترات معلقة بكلية الاعلام للنجم الاميركي الوسيم جورج كلوني... أثناء استضافته في القسم والذي أتى به هو والده الاستاذ المحاضر بالجامعة ليتحدث الى طلاب الاعلام... كما شاهدت بوسترات للمشاهير ومنهم المنتجة لفيلم «شارك» القرش... وكانت من خريجات الجامعة... لدينا لا اعتراف بكبارنا فلا نجد فخر الجامعة بخرجيها من المبدعين ورجال السياسة وكل المجالات الاخرى...

في الجامعة ذاتها مبنى صغير للصلاة وللمحاضرات الدينية، هو ليس قاصرا على المسيحيين بل هو لجميع الاديان اليهودية والمسيحية والاسلام، ويمكن لعدد من الطلاب طلب شيخ الازهر مثلا ليلقي عليهم خطبة... والجامعة تتكفل بدعوته بعد عدة شهور... كما تفعل ذات الشيء لرجال الدين من الديانات اليهودية والمسيحية...

في مساء بارد ذهبت مع مجموعتي الى شارع (18 ستريت) والذي أصبح اسمه الشعبي شارع «آدمز مورغن» لتناول وجبة عشاء، اسم الشارع لديه قصة، ففى هذا المكان مدرسة باسم آدمز للسود يقع على يمين ناصية الشارع وعلى الطرف المعاكس مدرسة مورغن للبيض... وكانت المعارك لا تتوقف بين الطرفين في منتصف اوائل القرن الماضي وذات يوم شب حريق هائل في الغابة والمصائب تجمع البشر فاشترك طلاب المدرستين في حماية المدينة لكي لا يمتد الحريق فيحرق الجميع بناره، فقاموا جميعا بكل حلاوة روح المصير المشترك بإطفاء الحريق كما قاموا بتنظيف المكان/ البيئة من آثار الحريق... وبعد انتهاء مهمتهم الوطنية التقوا طلاب المدرستين «آدمز» و«مورغن» ليتم إلغاء كافة أشكال التمييز العنصري بينهم.

أحب الرحلات عبر القطارات، فهي تمنحك إحساسا رومانسيا كما الافلام اللي مكونة دماغنا - وللقطارات المتجهة للولايات الاخرى مواعيد واسعار ترتفع وتنخفض كما البورصة... في منتصف الليل تنخفض الاسعار لان المسافرين أقل عددا... في محطة القطار أناقة واتساع ونظام وجمال أينما تسقط عيناك... وفي أربع ساعات وأنا في طريقي لولاية نيويورك وجدت نفسي أمام امرأة في - ربيعها - الثانية والتسعين... تشبه روز المرأة التى شاركت بتمثيل دور الراوية لقصة فيلم «تايتنك»... روز القطار مفعمة بالصحة وروح النكتة من اصل روسي وتزوجت من أميركي تصحبها حفيدة شقيقها القادمة من روسيا ولا تتحدث الانكليزية... روز التى مازالت تجد متسعا من حب الحياة تتجول بين الولايات لزيارة معارفها كلما عنّ على بالها ذلك... لم أقابل بحياتي امراة بهذا العمر تملك كل طاقة الحياة وهي في آواخر عمرها، مع روز... حقيبة صغيرة بها أطعمة من ساندويتشات وعصائر... تأكل بصمت وتتحدث ثم تغفو مع اهتزازات القطار دون أن تشكو من اي شيء وحين تصحو تبتسم بود إنساني عجيب...

حين تهبط الى محطة قطار نيويورك وتخرج... تستقبلك ناطحات السحاب التى تلتهم السماء الزرقاء... وسواء وصلت لهذه الولاية بالطائرة منذ ثلاث سنوات أو بالقطار فإنه يتسلل الى أنفك رائحة مميزة تشبه رائحة الفانيلا الدافئة فوق قطعة كيكة لذيذة...

تبهرني نيويورك هي الشباب الصاخب... الانيق الجميل ذات النهكة المدهشة... تشعر انك دخلت الى مدينة ساحرة كل شيء بها مصنوع من ابهار الالوان والانوار... من الشوارع البراقة بإعلاناتها الضخمة وناطحات السحاب العملاقة وأنوار تحيل الولاية الى نهار مضيء وحتى تميز مطاعهما الكثيرة ودور العرض المسرحي المبهرة في شارع... برودوي... الاسبوع المقبل عن... مسارح نيويورك...



تكتبها : ليلى أحمد

[email protected]