من الخميس إلى الخميس

الإبداع لا يُباع ولا يُشترى

6 أغسطس 2025 10:00 م

نحن في زمن باتت فيه الشهرة تُقاس بعدد المتابعين لا بجودة الفكرة وأصالة الموهبة، والأخطر من ذلك أن كثيراً من المنصات الأدبية والإبداعية غدت تمول من أصحاب الأموال.

وهنا يبرز تساؤل جوهري: هل يمكن للمال أن يخلق مبدعين؟ وهل نحن أمام جيل تُموَّل فيه «العبقرية» ويُستأجر فيه «الإبداع»؟

إنها حقيقة مؤلمة نراها تتجسد أمامنا في هذا العصر، فالمال بات أداة قوية لصنع مفكرين وإعلاميين وأدباء بلا موهبة حقيقية، ما يُفرغ الساحة الثقافية من مضمونها، ويُضعف الذوق العام...

اليوم يمكن لأي ثري أن يؤسس دار نشر باسمه، أو يُنتج فيلماً لخدمة مصالحه، أو يُصدر كتاباً يملأه كلمات بلا روح، ثم يُروّج له عبر حملات ممولة تجعله «الأكثر مبيعاً».

اليوم بعض الأسماء تتصدر المشهد الأدبي والإعلامي، ليس بسبب موهبتها وقدراتها، بل بسبب من وراءها من دعم مالي وعلاقات عامة، وإعلانات موجهة... حين يهيمن رأس المال على الفضاء الثقافي، يفقد النقاد حريتهم، إذ يصبح النقد «مجاملة» أو «تسويقاً»، لا أداة تقويم.

كما يُقصى أصحاب المواهب الحقيقية ممن لا يمتلكون ثمن الترويج، ولا يملكون «الواسطة» للوصول إلى الجمهور. فينكمش الإبداع، وتضمحل القيم الجمالية الحقيقية.

عالم الاجتماع الفرنسي البارز بيار بورديو، المتوفى عام 2002، شرح في كتابه الشهير «التميز» Distinction: A Social Critique of the Judgment of Taste كيف يستخدم المال لفرض الثقافة ما يخلق تمييزاً طبقياً غير مباشر في كل شيء حتى في الفن والأدب والموسيقى، ويحرم المجتمع من الإبداعات الحقيقية التي يتم تخليقها بين صفحات المعاناة.

كما أصدرت جامعة هارفارد الأميركية، دراسة تناولت العلاقة بين رأس المال والإبداع، أظهرت أن كثيراً من الجوائز الأدبية المستقلة تُمنح لأعمال متواضعة في محتواها الفني، لكنها تحظى بدعم مالي وإعلامي واسع...

ومثال آخر نراه اليوم في عالمنا العربي بشكل واضح، فقد انتشرت في الفضائيات العربية خلال العقد الأخير أسماء تصف نفسها بـ«المفكرين»، من دون أن يكون لهم أي رصيد بحثي، أو إنتاج فكري معتبر، سوى مشاركات ممولة لخدمات موجهة.

ولن ينسى المتابع العربي ذلك الضيف الذي ظهر على محطة «بي بي سي» البريطانية كمفكر، فإذا به ينفجر محتجاً لأن المحطة تأخرت في دفع مستحقاته المالية!

عندما يسيطر غير الموهوبين على المنصات الإعلامية والثقافية، يضيع الإبداع ويضمحل جمال الأدب، هنا يُصاب المجتمع بتشوه معرفي، حيث تُرفع أصوات لا تستحق، وتُخنق أخرى تستحق التقدير.

نحن اليوم بأشد الحاجة إلى عودة دور النقاد الحقيقيين من دون خوف أو تحكم مالي، إعادة دور لجان التقيم الحقيقية في مؤسسات الدولة ذات الصلة بالفن والأدب والإعلام، تقيد ومراقبة الجوائز الثقافية وجعلها على أساس الكفاءة وليس الواسطة...

فكم من أديب ومفكر لم يجد قوت يومه، خلدته الإنسانية وأسعد البشرية بإبداعاته؟ وكم من «ملياردير ثقافي» نجح في خداع بعض الناس ولكن الزمن طواه بعد أن ساهم بماله في إفساد عصره؟

إن الإبداع يولد من الحاجة، من المعاناة، من الخيال المحصّن بالموهبة والثقافة كما أن الإبداع لا تجده في حسابات البنوك ولا بين ترف عاشقي الشهرة.