في تطور أثار قلقاً بالغاً لدى الدبلوماسيين والباحثين القانونيين ومراقبي حقوق الإنسان، أطلقت الاستخبارات الإسرائيلية - بقيادة مدير جهاز «الموساد» ديفيد برنياع - حملة دبلوماسية سرية تهدف إلى إقناع دول ثالثة باستيعاب أعداد كبيرة من الفلسطينيين النازحين جراء الحرب على غزة.
فخلال زيارة برنياع إلى واشنطن في يوليو 2025، عُرض الاقتراح رسمياً على المسؤولين الأميركيين، والذي شمل إثيوبيا وإندونيسيا وليبيا كدول مضيفة محتملة.
في الواقع، ترقى هذه المبادرة إلى مستوى التطهير العرقي- وهي سياسة دافع عنها العديد من الوزراء الإسرائيليين علناً. إلا أن وراء «لغة الإنسانية»، تكمن حقيقة صارخة ومثيرة للجدل. إذ إن ما يُصوَّر على أنه حلٌّ حميدٌ لحالة طوارئ إنسانية هو في الواقع تهجير قسري مُدبَّرٌ في ظل حملة عسكرية مُدمِّرة تركت سكان غزة بلا ملاذٍ آمن، أو أمنٍ غذائي، أو إمكان الوصول إلى بنية تحتية فعّالة.
ووفقاً لتقارير إسرائيلية، بدأ المسؤولون مناقشاتٍ مع خمس دولٍ على الأقل لم تُسمَّ، ثلاثٌ منها كُشِفَ النقاب عنها علناً. وبينما تزعم مصادر إسرائيلية أن «بعض الانفتاح» قد تجلى في هذه المحادثات، لم تُقرّ أيٌّ من الدول المستهدفة بأي اتفاق، وأصدرت دول عدة نفياً قاطعاً. فقليلون هم من يُقتنعون برواية أن هذا التهجير طوعي. إذ تُدبِّر إسرائيل عمداً ظروفاً لا تترك لعدد كبير من الفلسطينيين خياراً سوى الفرار - ثم تُصوِّر رحيلهم القسري على أنه موافقة.
الإنكار وجدران الحماية الديبلوماسية
كانت ليبيا من بين أوائل الدول التي ورد اسمها في المخطط. وقد سارعت حكومة الوحدة الوطنية، ومقرها طرابلس، إلى رفض هذا الادعاء، ووصفت التقارير بأنها «مفبركة بالكامل» وأكدت دعم ليبيا للسيادة الفلسطينية.
وعززت السفارة الأميركية في طرابلس هذا الموقف لاحقاً، موضحةً أنها لم تشارك في أي جهود لإعادة توطين ما يصل إلى مليون فلسطيني في الأراضي الليبية - خلافاً لبعض التكهنات الإعلامية المبكرة.
كما لم تؤكد إندونيسيا، وهي دولة لا تربطها علاقات دبلوماسية بإسرائيل وأحد أبرز الداعمين للدولة الفلسطينية في المحافل الدولية، أي مشاركة لها.
وتصاعدت التوترات بين تل أبيب وجاكرتا بعد أن قصفت القوات الإسرائيلية مستشفىً تديره إندونيسيا في غزة، ما دفع جاكرتا إلى تعليق الاتصالات الدبلوماسية عبر القنوات الخلفية. ولم يصدر أي بيان رسمي يشير إلى أن إندونيسيا سترحب باستيعاب اللاجئين.
وحافظت إثيوبيا، الدولة الثالثة المذكورة في خطة إعادة التوطين، على صمت حذر. وبينما لمحت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى مناقشات جارية مع أديس أبابا، لم تصدر الحكومة الإثيوبية أي بيان يُقر بوجود أو ينفي أي مفاوضات من هذا القبيل.
من «التهجير الطوعي» إلى الهندسة الديموغرافية
إنّ تأطير تهجير المدنيين الفلسطينيين كبادرة إنسانية ليس بالأمر الجديد، لكنّ فقهاء القانون يسارعون إلى التأكيد على مخاطر استخدام اللغة الملطفة، فيصبح مفهوم «التهجير الطوعي» بحد ذاته موضع شك في سياق جيب محاصر انهارت فيه الخدمات الأساسية، وحيث يلوح خطر تجدد الهجمات العسكرية على ما تبقى من غزة في شكل كبير.
فبموجب اتفاقية جنيف الرابعة، يُحظر تماماً النقل أو الترحيل القسري للأشخاص المحميين من الأراضي المحتلة، بغض النظر عن الدافع أو الذريعة.
إنّ أي شكل من أشكال الإكراه، سواء كان مباشراً (بالقوة) أو هيكلياً (من خلال الحصار أو المجاعة أو الظروف غير القابلة للمغادرة)، يجعل عمليات النقل هذه غير قانونية في شكل قاطع.
منذ 7 أكتوبر 2023، ارتكبت إسرائيل (الحكومة والجيش) انتهاكات جسيمة ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك الاستهداف المنهجي للمدنيين، والتجويع المتعمد، والهجمات غير المتناسبة على البنية التحتية المدنية.
واستجابت المحكمة الجنائية الدولية بإجراءات غير مسبوقة، بإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع آنذاك يوآف غالانت.
ومع ذلك، قوبل هذا السعي للمساءلة بمقاومة شرسة من القوى الغربية: فقد هددت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية علناً، معلنتين أن المحكمة لم تكن تهدف أبداً إلى مقاضاة حلفاء الغرب، بل خصومه فقط.
وتكشف مثل هذه التصريحات عن ازدواجية المعايير في صميم ما يُسمى بالنظام الدولي القائم على القواعد، وتزيد من تقويض صدقية العدالة الدولية نفسها.
يجادل بعض المستشارين القانونيين بأن ما يتكشف ليس مجرد مسألة لوجستيات إنسانية، بل هو حالة تُستغل فيها لغة الإغاثة لتحقيق أهداف ديموغرافية عسكرية وإجرامية.
وانضمت منظمات حقوق الإنسان الدولية إلى هذه الاحتجاجات، بانتقادات واسعة النطاق للخطة، مجادلةً بأنها تُشكل محاولة للهندسة الديموغرافية - وهو مصطلح يُعيد إلى الأذهان نكبة عام 1948، عندما شُرد أكثر من 750 ألف فلسطيني في أعقاب مذبحة تعرض لها العديد منهم خلال قيام دولة إسرائيل.
فبالنسبة إلى العديد من الفلسطينيين، تُعيد فكرة التهجير الجماعي صدى صدمة جماعية مازالت حية في الوعي السياسي والثقافي. وقد أثار شبح نكبة ثانية - هذه المرة تحت ستار المنفى الطوعي - مخاوف عميقة من أن الحرب في غزة تُستخدم ليس فقط لهزيمة «حماس»، بل لتغيير المشهد الوطني الفلسطيني في شكل دائم.
وردّت الدول العربية بمعارضة حذرة لكن قاطعة. رفضت مصر والأردن - اللتان تستضيفان بالفعل أعداداً كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين - رفضاً قاطعاً أي دور في تسهيل المزيد من عمليات النقل الديموغرافي.
أما لبنان، الذي مازال توازنه الطائفي الدقيق تحت ضغط مستمر، فقد حذر صراحةً من أي محاولة لإعادة توجيه سكان غزة النازحين إلى أراضيه.
في غضون ذلك، تُمثل سوريا سيناريو أكثر تعقيداً. فرغم استمرار احتلال إسرائيل لأراضي سورية واقعة خارج مرتفعات الجولان، إلا أن اللقاءات المتسارعة بين دمشق وتل أبيب، أثارت تساؤلات حول التعاون المحتمل.
ومع ذلك، مازالت إسرائيل مترددة في تأييد نقل الفلسطينيين قرب الحدود السورية، خوفاً من أن يُشكل هذا القرب تهديداً إستراتيجياً طويل الأمد. ونتيجةً لذلك، يبدو الخيار السوري أقل جاذبيةً وسيناريو أسوأ للمخططين الإسرائيليين.
تواطؤ أميركي أم مُمكّن إستراتيجي؟
يُعد دور الولايات المتحدة في مبادرة النقل الإسرائيلية محورياً. فبينما صاغ المسؤولون الإسرائيليون الخطة لإدارة ترامب كضرورة إستراتيجية، يبدو الدبلوماسيون الأميركيون متقبلين، بل ومنخرطين بنشاط في تمهيد الطريق لما أطلق عليه مشروع «الريفييرا الجديدة».
ويؤكد النداء المباشر الذي وجهه برنياع، إلى واشنطن، مدى أهمية الدعم الأميركي بالنسبة إلى صانعي القرار الإسرائيليين - سواءً لإضفاء الشرعية على المبادرة أو لضمان تعاون دول أخرى.
ويثير هذا الانخراط مخاوف عميقة. هل سيُستخدم النفوذ الدبلوماسي الأميركي للضغط على الدول الفقيرة أو الهشة جيو- سياسياً لاستيعاب نازحين لا تتحمل أي مسؤولية تجاههم؟ وهل يُمكن استخدام المساعدات العسكرية أو المالية أو الحوافز الدبلوماسية كأدوات تفاوض لتسهيل سياسة يعتبرها العديد من الخبراء القانونيين انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي؟
لطالما ادعت الولايات المتحدة، أنها حليف ثابت لإسرائيل وداعم لحل الدولتين. ومع ذلك، في ظل الإدارة الحالية، التي تجاهلت إلى حد كبير الكارثة الإنسانية التي تتكشف في غزة، يبدو أن واشنطن تتخلى عن المبادئ من أجل البراغماتية، بل إنها تتخلى عن التزاماتها المعلنة منذ فترة طويلة لصالح المصلحة الجيو- سياسية.
الغاية الإستراتيجية
في جوهر اقتراح إسرائيل لإعادة التوطين، تكمن إستراتيجية أكثر شمولية: تغيير الحقائق الديموغرافية والسياسية على الأرض في غزة في شكل لا رجعة فيه.
من خلال تسهيل أو تحريض على الرحيل الجماعي للمدنيين الفلسطينيين، قد تسعى إسرائيل إلى تحييد ما تعتبره تهديداً ديموغرافياً تشكله غزة المكتظة بالسكان وبالمتمردين سياسياً.
وتهدف بذلك إلى إعادة تشكيل القطاع - ليس من خلال الضم، بل من خلال تفريغه من السكان ولإنشاء منطقة عازلة عسكرية داخل القطاع، لضمان سيطرة أمنية طويلة الأمد حتى بعد انحسار العمليات القتالية الرئيسية.
وبربط الضغط العسكري بخطط إعادة التوطين الدولية، يبدو أن إسرائيل تختبر حدود ما سيتسامح معه المجتمع الدولي - أو يتجاهله. إلا أن الجهود الدبلوماسية مستمرة في الوقت الراهن، محجوبة بالمجاعة والدمار والقتل الجماعي والغموض الإستراتيجي وضبابية الحرب.