حكاية الشاب اللبناني الذي أيقظتْ عودتُه... انقساماتٍ نائمة

جورج عبدالله من زنزانة الـ 40 عاماً إلى الخوف عليه من... الاغتيال

26 يوليو 2025 10:00 م

... بعد أربعة عقود أمضاها اللبناني جورج ابراهيم عبدالله، في السجون الفرنسية، انتقل بعد إطلاقه فجر يوم الجمعة إلى ما يشبه «العراء» في بلاده، فالقريبون منه لم يتردّدوا في البوح بخشيتهم من اغتياله والحاجة إلى حمايةٍ استثنائية له تحول دون تَمَكُّن إسرائيل من «تصفية الحساب» معه باصطياده في حربِ اغتيالاتها المفتوحة على بنك أهدافٍ لم يكبحْها اتفاقُ وقف الأعمال العدائية في نوفمبر الماضي.

وكعادةِ اللبنانيين المنقسمين على أي شيء وكل شيء، انفجرت «السوشيل ميديا» بالخلاف حول توصيف جورج عبدالله، ربطاً بالجدال الدائر حالياً حول الموقف من السلاح غير الشرعي وحق الدولة وحدها في احتكاره، الأمر الذي أيْقظ قاموس مفرداتٍ عن اليسار واليمين والنضال والإرهاب والعنف الثوري والدبلوماسية وإلى ما هنالك من تعبيراتٍ عن صراع غالباً ما يَخفت لكن سرعان ما يَعلو من جديد.

ظهر يوم الجمعة عاد جورج إلى لبنان بعدما كان تحوّل رمزاً لقضية سياسية استقطبت تعاطفاً لدى فئات واسعة من لبنان والعالم.

في الرابعة والثلاثين من عمره دخل السجن، ليخرج منه اليوم كهلاً في الثانية والسبعين، الى عالمٍ تَبَدَّلَ فيه الكثير واندثرت مع تحولاته قضايا وعصفت به المتغيرات.

خرج عبدالله، إلى الحرية ليطوى بخروجه ملف السجين الأقدم في أوروبا.

مسيرة طويلة من المطالبات الشعبية والرسمية داخل لبنان كما في فرنسا رافقت اعتقاله، وسط جدلٍ لم ينقطع حول خلفيات احتجازه واشتدّت وطأتُها في العقدين الأخيريْن مع الالحاح على إطلاقه لا سيما أن محكوميته انتهت وبات مؤهلاً للإفراج المشروط قانونياً منذ العام 1999.

قرار الإفراج صدر في 17 يوليو 2025 عن محكمة الاستئناف في باريس على أن يُنفذ في الخامس والعشرين شرط أن يغادر السجين الأقدم الأراضي الفرنسية وألا يعود إليها تاركاً سجن لانميزان الذي أقام فيه 140 نزيلاً من أصحاب الأحكام الطويلة والزنزانة رقم 221 التي أمضى فيها الوقت الأطول من محكوميته.

لحظة الإفراج اعتُبرت لكثيرين انتصاراً للإرادة الصلبة التي ميّزت عبدالله منذ اعتقاله عام 1984، وللحملات المتواصلة والمعارك القضائية التي لم تهدأ دفاعاً عن قضيته، في وجه تعقيدات سياسية وقضائية جعلت ملفه واحداً من أكثر القضايا حساسية في العلاقات الفرنسية - اللبنانية مع تَداخُل أميركي - إسرائيلي وتَفاعُل عالمي.

أسود وأبيض

فمن هو هذا «السجين الملتبس» الذي شغل العالم؟

«جورج عبدالله رح يرجع، جورج عبدالله ما بيركع» هكذا كانت صرخات المتظاهرين تعلو للمطالبة بالإفراج عن رجل عُرف بتاريخه الطويل في نصرة فلسطين والعداء لإسرائيل.

الشاب المسيحي القادم من بلدة القبيات العكارية، التحق شاباً بجبهة تحرير فلسطين وانضوى تحت لوائها للعمل المُقاوِم مع مجموعات يسارية أخرى كانت تؤمن بالكفاح المسلّح سبيلاً للتحرير.

والشاب الآتي من خلفية يسارية وَجَدَ في هذا الخيار ملاذاً لأفكاره الثورية في زمنٍ كان العالم منقسماً في شكل عمودي حاد بين أسود وأبيض، بين يمين «إمبريالي استعماري» و«يسار ثوري معارض».

شقيقه موريس يروي عنه في فيلم وثائقي قصير بعنوان «فدائيين» أنه كان «مدرسة في الالتصاق بالأرض والزرع والعائلة ومدرسة في السياسة. بدأ حياته العملية معلّماً في وزارة التربية في مدرسةٍ في منطقة أكروم العكارية، وهناك بدأ إحساسُه الطَبَقي يتبلْور بحُكْم ما تعانيه تلك المنطقة من حرمان مطلق».

وكانت «تلك المجابهة مع الفقر والحرمان انطلاقة مساره الفكري اليساري» كما يروي شقيقه الأصغر روبير الذي يقول انه «في تلك المرحلة كان لبنان في ذروة حركته الثقافية يعجّ بالأفكار اليسارية والثورية ويعيش تناقضاً واضحاً بينها وبين الأفكار البورجوازية اليمينية. وكان اليسار على المستوى العربي والدولي واللبناني في عزّ صعوده، كذلك كانت الحالة القومية تغلي في الوطن العربي ولا سيما مع صعود الثورة الفلسطينية وانتقالها للعمل من داخل لبنان».

وكان لبنان في تلك المرحلة يشهد اعتداءاتٍ إسرائيليةً متكررة كما كان يشهد في المقابل عمليات فلسطينية مسلّحة تنطلق من أرضه بعدما بات الكفاح المسلّح فكرةً راسخةً تبنّتْها المنظمات الفلسطينية وصارت الركيزة الأساسية لمبدأ تحرير فلسطين ولا سيما إثر نكسة حرب 1967 وخسارة الحرب ضد اسرائيل.

وقد انضمت الحركات اليسارية وبينها الحزب الشيوعي اللبناني الى هذا الكفاح المسلّح وتبنّت مبادئه. ومع بدء الحرب الأهلية وتَعَكُّر الجو في لبنان كما يقول روبير «انتقل جورج إلى الجنوب اللبناني مشاركاً في مقاومة الإعتداءات الإسرائيلية مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرها من الفصائل، وجُرح في العام 1978 أثناء عملية عسكرية.

في ذلك الوقت تصاعد التوتر في لبنان بين الأحزاب اليمينية واليسارية والفلسطينين واشتدّ التوتر الطائفي وحصل الاجتياح الاسرائيلي وما تلاه من أحداث كبرى في المخيمات الفلسطينية كان لها تأثير مباشر على الحركة الفلسطينية المسلحة وكل من يدور في فلكها».

الانتقال إلى فرنسا

حينها اتخذ جورج عبدالله قراره بالانتقال الى فرنسا التي كانت تشهد في ذلك الوقت، كما بلدان أوروبية كثيرة صعوداً للحركات اليسارية وكانت مسرحاً لعمليات مسلحة ضد المصالح الإسرائيلية والأميركية. وفي 24 أكتوبر 1984، ألقي القبض على عبدالله في مدينة ليون، بتهمة حيازة أوراق ثبوتية مزورة. لكن التحقيقات الفرنسية ربطتْه لاحقاً بعمليات اغتيال استهدفتْ الدبلوماسي الأميركي تشارلز راي في 1982 والملحق العسكري الإسرائيلي يعقوب بارسيمانتوف في العام نفسه. وعلى هذا الأساس، اتُهم بالتخطيط والمشاركة في هذه العمليات وتم الحكم عليه بالسجن المؤبد.

بعد مرور 15 عاماً «كان فيها عبدالله سجيناً مثالياً» كما نقلت الصحف الفرنسية، صدر أمر الإفرج المشروط عنه، لكنه لم يُنفذ ورُفض 12 طلباً لإطلاقه نظراً لتدخلات كثيرة حيث مورست ضغوط كبيرة لمنع الإفراج عنه بحجة ضلوعه في أعمال ارهابية استهدفت شخصيات أميركية واسرائيلية.

ومع ترافق صفة «الإرهابي» مع اسمه بات الإفراج عنه أمراً دقيقاً في الداخل الفرنسي ولا سيما بعد صعود موجة الإرهاب في العالم، كما بات مسارَ جدل داخل فرنسا بين اليمين واليسار بحيث كان يَخشى كل فريق استغلالَ قضية إطلاق جورج عبدالله من الطرف الآخَر.

من جهته، وبحسب روايات قريبين منه تمسك عبدالله بمواقفه السياسية ورفض الاعتراف بالعمليتين المنسوبتين إليه، كما رفض التوقيع على إقرار بالندم أو الاعتذار، ما أبقى ملفه مفتوحاً وبعيداً عن أي تسوية.

ويقال كذلك إنه لم يقبل أن يُفرج عنه مقابل مغادرته إلى دولة ثالثة تحت شروط سياسية. ويروى عنه أنه كان يجلس في زنزانته وسط الصحف الورقية وبطاقات بريدية من القريبين وان أكثر ما كان يحزنه رحيل الرفاق واحداً تلو الآخر.

استقبال حافل

وكانت بيروت ظهر الجمعة على موعد مع إجراءات استقبال منظمة. فمع الإعلان عن إقلاع الطائرة بدأ تَجَمُّع مناصرين له في شكل عفوي وسط إجراءات أمنية مشددة جداً ومنْع رفع الشعارات والأعلام إلا الأعلام اللبنانية في حرم المطار وأمام مدخله ما دفع مستقبليه إلى التجمع في نقطة قريبة وسط أجواء من التوتر، حاملين الشعارات والأعلام الحزبية والكوفيات الفلسطينية وصور جورج على رايات حمر، على وقع الموسيقى والأناشيد الثورية وسط انتشار كثيف للقوى الأمنية وفرق مكافحة الشغب.

عند الساعة الثانية والنصف حطت الطائرة التابعة للخطوط الجوية الفرنسية. ونحو الثالثة والربع وصل جورج عبدالله الى صالون الشرف في المطار بشعره الأبيض وقميصه الأحمر والكوفية الفلسطينية الملتفّة حول عنقه وكان في استقباله عدد من نواب حركة «أمل» و«حزب الله» بالإضافة الى ممثلين عن القوى السياسية وبعض رفاقه اليساريين.

تصريح جورج الأول في المطار عكس اقتناعاته، فقال ان «المناضل داخل الأَسْر يصمد بقدر ما رفاقه يحتلون الموقع الأساسي في المواجهة» وأن خروجه الى الحرية اتى بفعل جهودهم، مؤكداً انه حين تصبح معنوياً تكلفة إبقاء السجين في سجنه أغلى من حريته يتم إطلاق سراحه.

وأضاف أن «إسرائيل تعيش الفصل الأخير في وجودها، وأنا خرجتُ بفضل تحرك الجميع».

وفي ختام كلمته قال: «كنتُ مقتنعاً أنني عائدٌ إلى بلدي، وأنحني أمام دماء الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن الأرض».

وخرج عبدالله من المطار ليُقابَل بعاصفة من التصفيق والهتافات من قبل مئات المتجمهرين على طريق المطار وسط انتشار كثيف للجيش اللبناني والقوى الأمنية، ووَقَفَ وسط المتجمهرين رافعاً قبضته متأثراً بالحرية المستعادة والاستقبال الحاشد، قبل أن يستكمل مشواره الى بلدته القبيات التي أعدت له بدورها استقبالاً حاشداً في دار البلدية أولاً ومن ثم في دارته التي افتقدتْه 41 عاماً.