كان الرعيل الأول، يعتمدون في معاملاتهم كالبيع والشراء والقرض والهبة، على صدق الكلمة ووفاء القلب. فكان الجار يأمن أن يُقرض جاره آلاف (الروبيات) ومكاييل الذهب بلا كتابة صك ولا شهادة شهود... فأصبحنا اليوم -وقد تغيّر الحال- نوثق العقود ونستشهد حتى على الدانق والسحتوت!
والويل ثم الويل والثبور لصاحب الحق إذا ضاع صكه أو أنكر شهودُه وكثيراً ما يفعلون!
وخلاصة الحال، الكويتيون قبل النفط كانوا يجهلون أكثر ما نعلمه اليوم! ولكن لم يجن عليهم جهلهم أكثر مما جنى علينا علمُنا!
بل كانوا محرومين أكثر مما ننعم به اليوم من مساكن زاخرة وسيارات فاخرة وملابس زاهرة وديكورات زاهية وديباجات وثيرة وآنية مذهبة صقيلة.. ولكنهم لم يكونوا محرومين من أنفسهم وفي خطرات عقولهم أي شيء من هذا كله... لأنهم ألِفُوا معيشتهم البسيطة كما ألفنا نحن هذه المعيشة المعقدة...
إلا أن معيشتنا يكدرها تراكم الديون ودفع الأقساط آلياً مع نزول الراتب وخصومات التغيّب عن العمل وإنذارات الكهرباء والماء... وتالياً إعلان الإفلاس الآجل أو العاجل مع الضبط والإحضار... ومعيشتهم لم يكدرها شيء من ذلك حتى رحلوا عن البسيطة!
وها هي حواسيب البنوك والشركات، مكتظة مع أروقة المحاكم بديون الكويتيين التي كانوا في غنى عنها لولا زخارف المدينة وملاحقة الماركات وسريع الوجبات التي قلبت الكماليات في نظرهم إلى ضروريات... فبنوا القصور...
وشادوا الدور وما شادوا من مساكن -لو يعلمون- إلا قبوراً دفنوا فيها راحتهم وهناءهم ومستقبلهم ومستقبل ذريتهم من بعدهم فإن هؤلاء الأولاد المساكين بعد أن تخرّجوا في المدارس ضعفاء التحصيل العلمي مع تأخر التعيين من ديوان الخدمة المدنية تارة! ورفض الخرّيج الوظيفة تارة أخرى! أخذوا يسهرون الليل يقلبون صفحات الهاتف ثم ينامون في النهار بعد تناول وجبة ثقيلة أثقلت معها العزائم والهمم... فأصبحوا كلّاً على والديهم وعلى دولتهم، لم ينفعهم علمهم، ولم تُغن عنهم شهاداتهم بعد أن نفخت الحضارة المادية الكبرياء في صدورهم فأبوا أن يتنزلوا للاحتراف بما يقوّم معاشهم كما فعل الرعيل الأول الذين أفضوا ركائب حياتهم في طريق تعليمهم...
وباعوا في السوق كل ما ملكته أيمانهم من أجل تسديد نفقات دراستهم...
وجملة الكلام: إن للحاضر سيئات تفوق الماضي ولكن ويلاً واحداً من ويلين (أهون في الشرّ) والأمم لا تسعد بمعرفة الخير والشر، فالخير والشر معروفان حتى لأمة النمل زمن سليمان عليه السلام، وإنما سعادة الأمم في معرفة خير الخيرين وشر الشرين...
ولئن دام هذا الحال واطّرد المثال فالغد شرُّ من اليوم كما كان اليوم شرّاً من الأمس ... فهل من وقفة جادة للإصلاح؟ قبل أن يصبح الدواء داء، فلا أمل بعده في الشفاء! ومع هذا كله مازالت نفوس المتقاعدين معلّقة بالقرض الحسن!
همسة في أذن من يتمنى عودة الزمن الجميل - كويت الماضي، أقول له: افرش حصير على السيف تحت جدار أي بيت من بيوت جبلة أو شرق، واجلس بلا تكييف إلى غروب الشمس وستشعر بالماضي؟