سافر إلى ذاتك

مارس الموت... ليحيا قلبك

23 يوليو 2025 10:00 م

إنه أمر غريب، كيف نحيا وكأننا لن نفنى، نؤجل الكلام الجميل، ونكتم الحب، ونُجيد تأجيل العناق. نعيش بعقلية «لدي وقت»، بينما الوقت يُسقطنا حبة حبة، كما يسقط الرمل من يد المرتعش.

مارس الموت، لا بمعناه المخيف، بل كوعي. تخيّل كل صباح أنك قد لا تصل للمساء... لا لتجزع، بل لتستفيق. لتُصلح، لتسامح، لتُعبّر، لتعيش بعُمق، وكأن هذا اليوم آخر فصل في كتابك. مارس الموت كتمرين للحياة، لا كخوفٍ منها.

في علم النفس، هناك مفهوم يُسمى «الوعي بالموت – Mortality Salience»، وهو يعني استحضار فكرة الموت كوسيلة لتحفيز السلوك الإيجابي. دراسة منشورة فيJournal of Personality and Social Psychology (2003) أوضحت أن الأشخاص الذين فكروا في موتهم أصبحوا أكثر تعاطفاً، وأشد ارتباطاً بعائلاتهم، وأكثر ميلًا للتسامح. الموت هنا ليس نهاية، بل بداية أخرى للحياة الواعية.

فرويد تحدث عن «غريزة الموت» كمحرك دفين للسلوك، لكن مدارس أكثر حداثة – مثل العلاج الوجودي - رأت أن الخوف من الموت يمكن أن يتحول إلى طاقة للحياة، إذا ما تم احتضانه بدلاً من دفنه تحت الانشغالات اليومية.

اجتماعياً، نحن مجتمعات تؤمن بالفقد، لكنها لا تمارسه كحقيقة يومية. نُشيّع موتانا ونعود لعاداتنا القديمة، وكأن الموت لا يسكن بيننا.

كم من ابن خسر أمه وتمنى لو أنه جلس بجانبها أكثر؟ كم من زوجة ماتت على خصام؟ كم من كلمة حب أُجّلت حتى صارت بلا عنوان؟

أرقام مؤسسة Gallup (2019) كشفت أن 67 في المئة من الناس يشعرون بندم عميق بعد فقد الأحبة، ليس بسبب ما فعلوه، بل بسبب ما لم يفعلوه. الصمت، الإهمال، التأجيل... تلك التفاصيل الصغيرة التي تتحول في الغياب إلى ندوب لا تُشفى.

أتذكر «خالد»، ذلك الرجل الذي اعتاد أن يعمل حتى منتصف الليل، ظناً منه أن أبناءه سيفهمون لاحقاً، وأن زوجته ستصبر، وأن الوقت كافٍ ليعوّضهم... لكن الموت لم ينتظر، جاءه قبل «لاحقاً»، فبقيت أعمارهم حزينة، وحقائبهم مليئة بكلمات لم تُقل، وضحكات لم تُشارك، وصور بلا ذاكرة دافئة.

الموت لا يأتي ليخيفنا، بل ليُعلّمنا.

ليقول لنا: اختصروا النزاعات، واغسلوا قلوبكم كل مساء. قولوا «أنا آسف»، و«أنا أحبك»، و«أنا ممتن لوجودك».

عيشوا بقلوب مكشوفة لا مؤجلة، فالمؤجل قد لا يُنجز أبداً.

تقول الفيلسوفة هايدغر: «الإنسان لا يصبح حراً إلا حين يتصالح مع حقيقته المميتة». فالحياة ليست وعداً، بل فرصة موقتة. كل من تحبه قد يرحل، وأنت قد لا تُمهل، فكيف تشرح للغياب أنك كنت مشغولًا؟!

مارس الموت...

لتتعلّم كيف تحيا!

مارسه لا لتموت قبل أوانك، بل لتبدأ الحياة من جذورها.

تحياتي.