حروف نيرة

فن التغافل والتطنيش

22 يوليو 2025 11:00 م

في كثير من الأحيان، نحضر مجالس أو زيارات للقريب والصاحب، ويحضر فيها الغريب، حيث نلتقي بأفراد وجماعات لا نعرفها وقد يكون أول لقاء بيننا، ومنهم من تكون علاقتنا بهم سطحية.

لكل فرد أسلوب وسلوك، والزائر أو الضيف لا يهيئ نفسه من حيث الشكل فقط، وإنما يهيئ نفسيته بشدة على تقبّل كل ما قد يتعرّض له من مواقف مختلفة. كأنه يرسم خطة ذكية للتعامل مع كل شخص بحسب عقلية المتكلّم وسنه، فيساير كل واحد بحدود وعيه، واحترام كل ما يُوجّه إليه. وهذه مهارة تتدرّب عليها مع احتكاكك بالناس.

لكل إنسان أطباع وصفات، منها السيئة ومنها الحسنة. فلا تنظر إلى نفسك أنّك الأفضل، ولكن ضع لنفسك حدوداً احتراماً لنفسك واحتراماً للناس.

واجه الناس باتزان، سواء كان الشخص قريباً أو بعيداً، القريب تعرف أسلوبه وأطباعه، ومن الطبيعي أن تعرف كيفية التعامل معه. أمّا الغريب الذي نتعرّف عليه في المجالس فقد يستهلك ساعةً من وقتك.

في الغالب، يبدأ الحديث بتعريف كل منكما بنفسه وفتح موضوعات عامة أو منتشرة على الساحة، وقد تضطرك الظروف لمحاورة جميع المستويات الفكرية ومجاراة كلٍّ منهم، حتى لو كانوا ثقيلين على النفس من حيث الكلام أو العمل.

منهم من يتكلّم بكبْرٍ وغرور، ومنهم من يكثر الكلام ويتجاوز حدوده بجرأة ومن دون خجل، ومنهم من يحب المعارضة ومخالفة الرأي الآخر حتى لو كان يجهل الموضوع.

هنا يبدأ فنّ التغافل في التعامل مع تلك الفئة المزعجة: الإنسان الناجح يحفظ لسانه ويحرص على السكوت، لا يدخل في نقاش، ولا يقاطع كلام الآخرين، ولا يصحّح ما يقولون، ولا يلتفت إلى آراء ومواقف الجاهلين.

فالجاهل يوقعك في مشاكل بتعدّيه آداب النقاش. تعلّم الصمت، ودرب نفسك على الاستماع، فإنك بذا تعرض نفسك لأذى أقلّ من الجاهل السفيه وضرره وعيوبه.

انسحب بهدوء فلا تترك أثراً يسيء إليك أو يهين وجودك، حتى لا تخسر نفسك.

العاقل الفطن لا يجعل تصرفات هذه الفئة سبباً في توتّره أو تعكير مزاجه.

قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه،: «مَن لم يتغافل تنغصت عيشته».

قدرة الإنسان على التغافل والتجاهل والتجاوز والابتعاد تؤكد أنّه شخص مهذب. في هذه المواقف والتصرّفات يظهر الذكاء والحكمة والعقلانية، إذ لا يضخّم الأمور ولا يُصدّ أصحابها.

وكما في الآية الكريمة: «وَأعرِضْ عنِ الجاهلينَ»؛ فالجاهلون هم السفهاء الذين لم تستنر قلوبهم بنور العلم والتقوى، والإعراض عنهم هو عدم مؤاخذتهم على سوء قولهم أو فعلهم وترك معاشرتهم.

ولا علاج أقوى لكفّ أذاهم من اجتنابهم. والجهل الذي أشارت إليه الآية هو السفه والتمرد، لا الجهل ضد العلم والمعرفة.

وكما في قول لقمان الحكيم عندما سُئل: «ممن تعلّمت الحكمة؟» قال: «من الجهلاء؛ كلما رأيت منهم عيباً تجنبته».

فلا تقلّل من شأنك برفع جاهلٍ سفيه؛ ففي ذلك إهانة لنفسك ورفعة له.

قال الإمام الشافعي، رحمه الله،: «الكيس العاقل هو الفطن المتغافل».لذلك، تذكّر دائماً: التغافل في المجالس ليس ضعفاً، بل وعيٌ وحكمة.

aaalsenan@