قيم ومبادئ

بفريجنا!

3 يوليو 2025 10:00 م

في بلدياتنا أعرف رجلين يجمعهما عمل واحد ومركز قانوني واحد ويحملان شهادة علمية واحدة... أحدهما من خير الناس والآخر من شر الناس... وإن كان بقية أهل الحي لا يرون رأيي فيهما.

أما الأخ الأول فهو رجل قد أخذ على نفسه منذ نعومة أظفاره بمطالعة كتب الفقه والأخلاق والآداب وكيفية تمثلها في ليله ونهاره... فقرأ فيها فصول الصدق والإخلاص والأمانة والعفة والسماحة والمروءة والكرم، وافتُتِن بتلك الفضائل افتتاناً شديداً... ثم دخل معترك الحياة وخاض غمارها بعد ما تخرج وعافس الدنيا... وقد استقر في نفسه أن الناس قد عرفوا من الأدب مثل ما عرف وفهموا من معناه ما فهم ... وأخذوا من الأدب بمثل ما أخذ... فغضب في وجوه الأشرار... وبما أن (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) حيث إن المنحرفين أكثر عدداً وأعظم سلطةً وجاهاً ويملكون من وسائل التأثير ما لا يملك هو ولا غيره... فسُميَّ في عموم المجتمع متشدداً متطرفاً لا يعيش زمانه! ومع أنه بذل معروفه وإحسانه للعاجز والمقعد ومنعه من القوي المقتدر... فلم يشعر بمعروفه أحدٌ... فقالوا عنه فلان بخيل... وقال لمن جاءه يساومه في ذمته: إني أحبك ولكني أحب الحق أكثر منك فكثرُ أعداؤه وقل أصدقاؤه فأظلمت الدنيا بين عينيه!

أما الثاني، فأقل سيئاته أنه لا يفي بوعده ولكنه يُحسن الاعتذار عن إخلاف الوعود... وما رآه الناس في يوم من أيامه عاطفاً على البائسين أو المنكوبين... ولكنه يبكي في وسائل التواصل الاجتماعي لمصاب البائسين والمهجرين ويستبكي لهم... فعُدَّ من الأجواد الكرام!

وكثيراً ما أكل أموال اليتامى وأساء الوصية عليهم ولكنه لايزال يمسح رؤوسهم ويحتضنهم إلى صدره في مقاطع الفيديو كأرحم الرحماء! وأشفق المشفقين! فسُمِّي الأخ الرحيم و-فاعل خير- ولا يفتأ ليله ونهاره يقع في أعراض الناس ويستنزل من أقدارهم... إلا أنه يخلط جِدَّه بالهزل ومرارته بالحلاوة فلم يعرف الناس عنه شيئاً سوى أنه ظريف ويقولون ما أظرفه وما أعقله وليس في قلبه من الإيمان حبة خردل! كما قال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

هكذا إذاً تبدلت الصور وانعكست الحقائق وأصبح الرجل المخلص أحرج الناس بصدقه وإخلاصه صدراً وأضلهم بهما سبيلاً! فلا يدري أيكذب فيسخط ربه ويُرضي الكاذبين؟! أم يصدق فيُرضي نفسه ويُسخط الناس أجمعين؟! ولا يعلم أيهجر هذا العالم إلى عزلةٍ منقطعة يقضي فيها بقية أيام حياته غريباً شريداً؟! أم يبرز للعيون فيموت همّاً وكمداً؟! وهو يرى المسرحيات وتبدل الأدوار واختلاف الأحوال... ولا يعلم سِرَّ الله في خلقه أحد!

وأخيراً تجولت بالفريج وقد جاءهم الورث مما تركه الرعيل الأول فتغير السكن وتجددت السيارات... ولكن للأسف ضاع أكثر الموروث والقيم! وما بقي إلا القليل فحافظوا عليه.