في الطبعة الثانية من كتابه

قراءة / فرحان الفرحان يستعرض قصة هروب المتنبي ورحلته من الفسطاط إلى الكوفة

1 يناير 1970 02:00 م
|كتب ياسر رضوان|

قليلة هي الكتب وقلائل هم الكتاب الذين يشغلون انفسهم بالبحث والتنقيب في حياة الشعراء والمفكرين الذين اثروا الذاكرة العربية بعيون الشعر والأدب، ولعل في مقدم هؤلاء المورخين الحريصين على توثيق كل ما يثري الذاكرة العربية الكاتب المؤرخ فرحان عبدالله أحمد الفرحان المهتم بتاريخ وجغرافية شرق الجزيرة العربية والذي تعد مؤلفاته وكتاباته المختلفة معينا لا ينضب وزادا زاخرا للمكتبة العربية، ومنذ أيام صدر للكاتب المؤرخ فرحان الفرحان الطبعة الثانية من كتابه «قصة هروب المتنبي ورحلته من الفسطاط إلى الكوفة» والذي يستعرض فيه الظروف والملابسات التي احاطت بظروف مغادرة ابي الطيب من الشام إلى الفسطاط وبقائه إلى جوار حاكم مصر انذاك كافور الاخشيدي ثم الهروب من بطشه بعدما فشل في الحصول على ما كان يتمنى واخذ يكتب قصائد الهجاء في كافور تاركا مصر عائدا إلى الكوفة. وما من احد يستطيع ان ينكر على المتنبي ما يتمتع به من شاعرية وقدرة على قرض الشعر، فهو شاعر العربية وفارسها الأول، الا ان ما تعرض له في مصر اخرج لنا اجمل القصائد واروعها التي كتبها في المدح والهجاء ويكفي القصيدة التي تركها لكافور قبل رحيله عن مصر عام 961م، والتي بدأها قائلا:

عيد بأية حال عدت يا عيد

بما مضى أم امر فيك تجديد

أما الأحبة فالبيداء دونهم

فليت دونك بيدا دونه بيد

إلى أن قال:

صار الخصي إمام الآبقين بها

فالحر مستعبد والعبد معبود

نامت نواطير مصر عن ثعالبها

فقد بشمن وما تفنى العناقيد

العبد ليس لحر صالح بأخ

لو انه في ثياب الحر مولود

لا تشتر العبد الا والعصا معه

ان العبيد لأنجاس مناكيد

ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن

يسيء بي فيه عبد وهو محمود

ولا توهمت ان الناس قد فقدوا

وان مثل ابي البيضاء موجود

وان ذا الأسود المثقوب مشفرة

تطيعه ذي العضاريط الرعاديد

... انها قصيدة تقطر عذوبة وشاعرية كتبها المتنبي صبيحة عيد الاضحى في هجاء كافور الاخشيدي عندما رفض ان يوليه عملا من أعمال مصر.

ويشير الكاتب الفرحان تحت عنوان «ذكاء المتنبي» إلى ان المتنبي قبل خروجه من مصر اراد امتحان كافور في ما اذا كان سيسمح له بالمغادرة إلى الرملة «في فلسطين» ليحصل على ماله هناك ويكتشف مدى ما اذا كان كافور فعلا لا يرغب في مغادرته، وبالفعل صدق حدس المتنبي فقد طلب كافور الاخشيدي من المتنبي الا يرهق نفسه بالمغادرة وانه سيكلف من سيأتي له بماله وهو جالس عنده، وبهذا اكتشف ان كافور هو سجانه الحقيقي فقال فيه:

أتحلف لا تكلفني مسيرا

إلى بلد أحاول فيه مالا

وانت مكلفي ابنى مكانا

وابعد شقة وأشد حالا

اذا سرنا عن الفسطاط يوما

فلقني الفوارس والرجالا

لتعلم قدر من فارقت مني

وانك رمت من ضيمي محالا

وتناول الفرحان في مؤلفه سيرة حياة المتنبي ونشأته واثرها في تكوين شخصيته وطموحه إلى الرئاسة او الولاية باي وسيلة كانت، وما اثير عنه من ادعائه النبوة، ولجوئه إلى التكسب بالمدح بعد وفاة ابيه وارتباطه بسيف الدولة الحمداني وحقد الشعراء عليه واثارة سيف الدولة ضده ومحاولة الانتقام منه إلى ان غادر حلب متوجها إلى مصر والبقاء إلى جانب كافور الاخشيدي الذي كان يشعر ان المتنبي لا يخلص له وكان ينال منه في شعره بأبيات ظاهرها التقدير وباطنها التحقير إلى ان تمكن من الفرار من قبضته وهجاه هجاء يحط من كرامة الانسان، ثم عاد إلى الكوفة بعد رحلة استغرقت ثلاثة اشهر وبلغ سيف الدولة ذلك فارسل اليه بهدية، ثم ارسل اليه كتابا يطلب فيه منه العودة إلى حلب، لكن المتنبي رفض خشية ان تفسد حاشية سيف الدولة ما بينهما، وبالفعل اقام المتنبي في الكوفة ثلاث سنوات زار خلالها بغداد، وفي اثناء سيره وعودته إلى الكوفة خرج عليه جماعة من اللصوص وقاتلهم وليس معه الا ابنه وغلامه، ثم حاول الفرار فقال له غلامه أين قولك:

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

ما دفع المتبني إلى قتالهم ومقاومتهم حتى قتل، وهكذا مات ميتة الابطال بعد ان عاش حياة ملؤها الأمل والطموح والانفة والكبرياء والشجاعة والعفة والرصانة ومجانبة اللهو والهزل والترفع عما كان ينغمس فيه شعراء عصره، فقد كان يحرم على نفسه شرب الخمر حفاظا على عقله، كما كان وفيا لاصدقائه، وكان يكره الكبر والرياء، غير انه اضطر اليه مع كافور، وهذا ما زاد في مرارة هجائه له، وكان سيء الظن بأهل عصره متشائما، لكن تشاؤمه لم ينته به مثل غيره إلى الضعف، بل كان تمجيد البطولة والقوة وصفات الرجولة إلى الطموح والنزعة إلى تغيير مجرى الحوادث والدنيا، فهو القائل:

وما الدهر الا من رواة قصائدي

اذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا

وقد استعان الكاتب فرحان الفرحان ببعض ماكتب عن المتنبي في العصر الحديث ومن بين هؤلاء احمد رمزي بك الذي قال عنه: «أحب ابا الطيب المتنبي واتغنى بشعره، فنظمه لدي نشيد الانشاد، فاذا جال شعره في خاطري او طرق اذني احسست بانني لست غريبا عن صاحبه، وكأنني قد تعرفت اليه وعاشرته في حياة اخرى قبل اليوم. ان شعر المتنبي كالدواء المنعش الذي يفضه الطبيب على المريض في دور النقاهة لكي يقوي جسده وتشتد نفسه، فاذا اعتاده المرء صعب عليه بعد الشفاء ان يتركه، واصبح بحكم العادة جزءا متمما لمأكله ومشربه». رحم الله ابو الطيب المتنبي، وامد الله في عمر المؤرخ فرحان عبدالله الفرحان الذي امتعنا برحلة هروب المتنبي من الفسطاط «مصر» إلى الكوفة وما احاط بها من ملابسات وغموض وما جادت به قريحة ابي الطيب من اشعار ظلت شاهد عيان على حقبة تاريخية يجهلها الكثيرون. خلاصة القول ان كتاب «قصة هروب المتنبي ورحلته من الفسطاط إلى الكوفة» جهد منظم اعتدنا عليه من المؤرخ الفرحان جمع بين دفتيه متعة القراءة وثقافة المعرفة.