الدّين العام ليس حلاً بل تأجيلاً لفاتورة لم تحسب بعد

26 مايو 2025 10:00 م

- لا أحد يرفض الدَين العام كأداة اقتصادية إذا ارتبط بمشروع إنتاجي واضح
- التصنيف الائتماني لا يقيّم فقط القدرة على السداد بل أيضاً الجدية في الإصلاح

في الاقتصاد كما في الحياة، ليس كل دواء شفاء، أحياناً يسكن الألم ليخفي ورماً يتضخم تحت السطح.

في ظاهر المشهد يبدو الدين العام كحل مالي أنيق، تستدين الحكومة من البنوك لتسد عجوزاتها وتطمئن الأسواق بأنها قادرة على الوفاء، لكن خلف هذه الابتسامة المحاسبية يكمن وجه الحقيقة الصارخ، فليس كل دين يبنى عليه عمران فهناك دين يبنى على انقاض المستقبل.

لا أحد يرفض الدين العام كأداة اقتصادية إذا ارتبط بمشروع إنتاجي واضح وخطة زمنية محكمة وإدارة مالية تراعي الانضباط والشفافية، لكن حين يطرح كخيار وحيد وبلا إصلاح مالي يسبق الاقتراض فإننا لا نحل المشكلة بل نعيد جدولتها على حساب الأجيال القادمة، والأخطر من الدين أن نقنع أنفسنا أننا نصلح الخلل المالي بينما نحن نعيد تدوير العجز ذاته بصيغة قانونية جديدة.

أولاً: الدين ليس مالاً جديداً بل مالاً مستعاراً من مستقبل مجهول:

كل دين هو تحميل للزمن ما لا طاقة له به والمشكلة ليست في الاقتراض ذاته بل في:

• غياب الرؤية الاقتصادية التي تضمن استثمار الدين لا استهلاكه.

• غموض الصرف خاصة إذا خصص لسد العجوزات والرواتب لا لمشاريع إنتاجية.

• تحوله من أداة استثنائية إلى عادة دائمة في تمويل الميزانية.

في بيئة كهذه لا يصبح الدين حلاً بل يصبح وسيلة لتأجيل الحقيقة ودفن الإصلاح المالي تحت أرقام موقتة.

ثانياً: الدين يضعف السيادة المالية ويزيد كلفة التبعية:

الدين ليس رقماً فقط بل التزاماً سياسياً واقتصادياً، مع كل توسع في الاقتراض ترتفع كلفة خدمة الدين وتضيق مساحة القرار المالي، ومع ارتفاع أسعار الفائدة عالمياً تبدأ فوائد الدين بأكل جزء متزايد من الميزانية على حساب التعليم والصحة والإسكان، فتتحول الدولة إلى مدين يفاوض على شروط لا يملك تغييرها.

كما حدث في دول كثيرة مثل اليونان والأرجنتين، تحول الدين من وسيلة دعم الى أداة إملاء خارجي حين فقدت تلك الدول قرارها المالي، وهو السيناريو الذي يجب أن نحذر تكراره.

وهذا لا يعني أن الدين العام مرفوض في ذاته، بل إن العديد من الدول استفاد منه حين كان جزءاً من رؤية تنموية شاملة، فالدين العام متى ما ارتبط بمشاريع إنتاجية حقيقية، وأُحكمت آليات صرفه وضبطت أهدافه الزمنية والمالية، يمكن أن يكون رافعة اقتصادية.

دول مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة استخدمتا الاقتراض كوسيلة للنهوض بالبنية التحتية والتعليم والصناعة، لكن ذلك لم يكن وليد قرار عابر، بل نتاج إصلاح مالي «صارم»، و«مؤسسات رقابية قوية»، و«حوكمة عالية الشفافية».

الفرق الجوهري ليس في الاقتراض ذاته بل في بيئته، هل هو قرار ضمن خطة؟ أم مجرد ردة فعل لأزمة؟

في الأولى يولد النمو، وفي الثانية يولد العجز المقنع!

ثالثاً: من العبث الحديث عن اقتراض والدولة لم تسترجع أموالها من نفسها:

لا يعقل أن تطلب الحكومة تفويضاً بالاقتراض وهي لم تسترجع مليارات محتجزة في السنوات الماضية في جهاتها التابعة، وحسب بيانات رسمية بلغت الأرباح المحتجزة لدى بعض الجهات ذات الميزانيات المستقلة ما يلي

• مؤسسة البترول الكويتية 8.4 مليار دينار.

• مؤسسة الموانئ الكويتية 136.2 مليون دينار.

• الهيئة العامة للاتصالات وتقنية المعلومات 112.6 مليون دينار.

• الهيئة العامة للصناعة 52.5 مليون دينار.

بإجمالي يقارب 8.7 مليار دينار، لم ترحل الى خزينة الدولة كما يوجب القانون.

فهل يعقل أن نترك أموالنا مجمدة في حسابات الجهات الحكومية، ثم نستدين من الخارج بفوائد تحمل على أبنائنا؟

وللأمانة قامت مؤسسة البترول في وقت سابق باسترجاع مبلغ 1.8 مليار دينار من أرباحها المحتجزة وفق خطة مجدولة تم التفاهم عليها مع وزارة المالية، لكن هذه الخطة توقفت بعد ذلك من دون أسباب معلنة!

وقد يخرج من يقول إن هذه الجهات تمول مشاريعها من أرباحها وهو كلام نظرياً سليم لكن عمليا ما حدث مختلف تماماً، كان يمكن لمؤسسة البترول وغيرها أن تحتفظ بنسبة من أرباحها لتمويل مشاريعها التشغيلية أو استثمارها بمشاريع جديدة ذات صلة وهذا منصوص عليه قانوناً.

لكن تقرير ديوان المحاسبة كشف أن المؤسسة استغلت احتياطاتها في أنشطة استثمارية ذات مخاطر منخفضة مثل شراء الأسهم والودائع والسندات، وهي أنشطة لا تتسق مع الغرض الذي أنشئت لأجله وهو الاستثمار المباشر في العمليات النفطية والانتاجية، بل استخدمت بعض عوائد تلك الاستثمارات لتغطية خسائر مشاريع تشغيلية دون تحويل الفائض الحقيقي الى وزارة المالية «خزينة الدولة»، وهذا تجاوز للمهمة الأصلية وتحول فعلي الى كيان استثماري، يعمل خارج إطار السياسة المالية الحكومية، وتم توجيه جزء من هذه العوائد في ما مضى لصرف بكجات مليونية لبعض قياداتها، ما يعكس خللاً عميقاً في أولويات الصرف وضبابية في معايير الحوكمة، وما لم تفرض رقابة حقيقية، فإن الخلل لن يكون محاسبياً فقط.

رابعاً: الدين العام يبعث برسالة ضعف الى السوق:

حين تستدين الدولة دون إصلاح فعلي:

• تتراجع الثقة في التزامها المالي.

• تتأثر التصنيفات الائتمانية.

• تقل شهية المستثمرين في القطاع الخاص.

• وتخشى البنوك الدخول في تمويلات طويلة الاجل.

فالسوق لا تقرأ نوايا الحكومة بل تقرأ بياناتها وحين ترى أنها تستدين دون معالجة الخلل البنيوي تبدأ بتسعير الخطر لا على أساس السوق فقط بل على أساس السياسات.

التصنيف الائتماني لا يقيم فقط القدرة على السداد، بل يقيم أيضاً الجدية في الإصلاح، وكل تراجع فيه يرفع كلفة الدين المقبل ويضعف قدرة القطاع الخاص على الاقتراض بثقة.

خامساً: الأزمة ليست نقص أموال بل غياب الحوكمة:

لو كانت الدولة شركة لرفض مستثمروها ضخ فلس واحد قبل أن تعيد بناء نظام الحوكمة وضبط المصروفات وربط الانفاق بالعائد، الخلل اليوم ليس في الخزينة بل في طريقة الإدارة، فالمال موجود لكن القرار يحتاج إلى تفعيل والمحاسبة معلقة والنتائج مكررة.

سادساً: حين يكون القرار المالي صناعة خارجية لا داخلية:

في كتاب الاغتيال الاقتصادي للأمم يروي جون بيركنز تجربته في التفاوض مع دول نامية فقال: «كنت أجلس على طاولة التفاوض لكن القرار الحقيقي لم يكن يصنع هناك بل في واشنطن، كنا نلبس الهيمنة ثوب السيادة ونمرر السيطرة باسم التعاون الاقتصادي».

وما أشبه اليوم بالأمس، فإن لم نربط الدين بخطة انتاج واضحة ونضع شروطاً صارمة على صرفه ونخضع الجهات المستقلة لرقابة مالية فعلية، قد نجد أنفسنا نوقع على أوراق وندفع كلفتها من مستقبل أبنائنا.

كما أن غياب دور الادارة العامة الرشيدة يجعل بعض مكاتب الاستشارات الأجنبية من تضع لنا سقف الاقتراض ومجالات الصرف وشروط السداد.

ختاماً، لا نريد توريث العجز لأبنائنا، ولا بد من البدء بحوكمة المال العام.

فالدين ليس قراراً محاسبياً، بل قرار يحمل تبعات تمتد لأجيال، ولا يجوز أن يتحول إلى أداة لتأجيل الإصلاح، بينما تستمر بعض الجهات بالتصرف في المال العام دون رقيب أو مساءلة.

إن أخطر ما في الأمر، ليس الاستدانة بحد ذاتها، بل الاستدانة في ظل أموال محتجزة، ومصروفات بلا ضبط، ومشاريع بلا عوائد، ومؤسسات مالية بلا رقابة حقيقية.

حين تغيب الرقابة المؤسسية لا تبقى المسؤولية موزعة بل تصبح أمانة في أعناق من بيدهم القرار من الحكومة، وتصبح الرؤية واجباً يتجاوز الورقة والرقم، ويتطلع إلى مستقبل هذا الجيل وما بعده.

اللهم قد قلنا ما في ضميرنا فكن لنا شهيداً.