المسافر كان يصل إلى المطار قادماً من الحج أو من سفرة دراسية أو سياحية، ولفيف من الأهل يستقبلونه في المطار وقد رشوا عليه الحلوى الملبسة، وربما سمع مع ذلك «تلولش» النساء أو زغاريدهن مختلطة مع ضحكات الفرح احتفاء بالمسافر، ومن بعيد يقف بعض أصدقاء المسافر القادم يلوحون بأيديهم إليه مع ابتساماتهم العريضة.
الآن، قد يصل المسافر وقد يكون الوالد أو الوالدة أو الاثنين معاً ولا يكون إلا سائق المنزل بانتظارهما، أما إذا لم يكن لديهما سائق سيارة فقد يستقلان سائق تاكسي جوال أو خاص.
في السابق هناك أزمة أمام بوابات المستشفى، فلا يخلو المكان من تخاصم وشجار بين حارس بوابة الزيارة والزوار من أقارب وأصدقاء المريض الذي يبيت بالمستشفى، فقد كان وقت الزيارة محدداً ومحدوداً ببضع ساعات من نهار، لكي لا تزعج كثرة الزيارات المريض. الآن قد ينام المريض في المستشفى لأيام ولا يكون هناك من زوار إلا كطل، فقد تغيرت أشياء كثيرة في مشاعر الناس في السنوات الأخيرة، وتبلدت المشاعر إلى حد كبير، تغير قد يكون له أسبابه، لكنها لا ترقى أن تكون أسباباً مبررة، وبلادة المشاعر هذه هي مقدمة لأمراض اجتماعية ونفسية وتفكك للأسر والمجتمعات.
لطالما تم إلقاء اللوم على التطور التكنولوجي كسبب للتباعد الاجتماعي، ولطالما تم إلقاء اللوم على الآلة بأنها أظهرت الجانب الجاف والجامد والقاسي من البشر، حتى أصبح بأسهم بينهم شديد كبأس الحديد.
فقد غزت السفن البخارية البحار ثم البراري والأدغال، وتمددت شبكات القطارات في القارات، وانتشرت في السماء الطائرات وعلى الأرض السيارات، فقربت المسافات، فهل باعدت بين قلوب الناس؟
ثم جاء دور تكنولوجيا الاتصالات الحديثة التي يتم تسميتها ادعاء بالتواصل الاجتماعي، وقامت أدوات دعاية وتسويق التكنولوجيا بطرح وتسويق حلم العالم كقرية صغيرة، فهل أكثر جمالاً العالم، القرية الصغيرة، أم الأرض الواسعة الرحبة؟!
نعم قد أصبح العالم بفضل شركات التسويق قرية صغيرة، لكن أهلها يحادثون بعضهم عبر الآلة، وأحياناً الآلة تختبرهم للتأكد من هويتهم إن كانوا بشراً أم آلة!
أهل البيت الواحد يتحدثون مع بعضهم عبر الآلة، ترى الزوج يحادث زوجته ويرسل لها رمز الوجه المبتسم الأصفر، فتجيبه برمز الوجه ذي القبلة الحمراء على الوجنة، يفعلان ذلك وليس واحداً منهما في القطب الشمالي والآخر في الجنوبي، هنا لربما أصبحت القبلة الرمزية دافئة، لكن سخرية الأيام أن هذا التبادل في الحديث والابتسامات والقبل يحدث وقد يكون الزوج في غرفة النوم، والزوجة متكئة على الأريكة في الصالون.
نعم، أصبح العالم قرية صغيرة، شكراً لشركات تسويق التكنولوجيا الملياردرية، لكن هذا العالم ذا الشبكة العنكبوتية تسمم هواؤه من طفح المعلومات الغث والسمين، ومن نشرات الأخبار والدعاية الموجهة والمعروف عالمياً بمسمى البروبوغاندا.
لقد ضج الإنسان البسيط والعام وحتى الواعي من كم الأخبار والتحليلات التي تأتيه على الشاشة مرئية ومنطوقة وحتى مكتوبة في أسفل الشاشة، في إحاطة جارية للناس، وكأن الناس كلهم أصبحوا مراسلين للأخبار.
نعم، أصبحت هذه القرية الصغيرة جامدة، فلم يعد هناك خرم ينفذ منه إشعاع للأحاسيس أو منفس للمشاعر، فلم ترى حلقات الشباب يتبادلون أبيات الشعر كما في الماضي فيرددون مثلاً قول أحمد شوقي:
تلك الطبيعة قف بها يا ساري
حتى أريك بديع صنع الباري
ولم يعد يرى الشابات أو الشبان يرددون لطيف الأشعار ويستذكرون أبيات ايليا أبي ماضي:
قال: «السماء كئيبة!» وتجهما
قلت: ابتسم يكفى التجهم في السما
قال: الصبا ولى! فقلت له: ابتسم
لن يرجع الأسف الصبا المتصرما!
هناك مقطع فيديو قصير يصف الأولويات للناس قبل أربعين سنة، فقد كان أكثر الوقت للأصدقاء والعائلة، ثم للمدرسة والجيران وكان الزائر الجديد الانترنت لا يمثل إلا واحد في المئة من وقت الناس.
بعد أربعين سنة وفي سنة 2024، تحديداً أصبح «النت» يستحوذ على أكثر من ستين في المئة من وقت الناس على حساب الأصدقاء والعائلة والجيران والمدرسة ودُور العبادة.
طبعاً هذه الأرقام تشير إلى عمق التغيير وتأثير الأجهزة الحديثة، وليس المطلوب محاربتها، أو النظرة للموضوع من نظارة سوداء، بل النظرة الواعية تستلزم خلع النظارة السوداء، وكبح جماح التأثير الطاغي للآلة على علاقات الإنسان، ونفسية الإنسان تباعاً.
لقد أصبح من المطلوب وعي من الوالدين ومن المربين ومن المدارس والجامعات وجمعيات النفع المعنية والدولة ومؤسساتها ذات الشأن أن يتداركوا تغول الآلة على الأنسنة وانعكاس ذلك على العلاقات الاجتماعية من صلة رحم قريب وبعيد، ومن ترابط الأسر والأزواج والتأثير على الصداقات، الانتباه والوعي في التعامل مع التكنولوجيا والآلة التي سرقت من الناس أوقاتهم ومشاعرهم وأحاسيسهم وعلاقاتهم واستقرارهم النفسي عبر آلات القرية العالمية الصغيرة المصطنعة.