جودة الحياة

رحلوا... وبقي الوجع وطناً في القلب

6 مايو 2025 10:00 م

الفقد تجربة إنسانية قاسية، لا يمكن لأي كلمات أن تفي بوصفها أو تخفف من قسوتها. هو لحظة تنقلب فيها الحياة رأساً على عقب، حين يُنتزع من القلب من كان نبضه، ويغيب من الذاكرة من كان كل الذكريات. لا يُعلن الفقد فقط بالموت، بل بكل رحيل لا رجعة فيه، بكل وداع لا تليه لقاءات، وبكل فراق لا يسده أحد.

عندما نفقد من نحب، لا نفتقد أجسادهم فقط، بل نفتقد تفاصيلهم الصغيرة التي كانت تمر معنا في اليوم العادي دون أن نلاحظها، لمسة يد، نظرة خاطفة، كلمة عابرة كانت تعني لنا كل الأمان. الفقد لا يطرق الباب، بل يقتحم الروح فجأة، ويستوطنها، ويجعلها أسيرة لذكريات تتكرر في البال، تنهك القلب، وتُدمي العيون كلما مرت في الخيال. الاشتياق لا يقل قسوة عن الفقد، بل ربما يزيد. هو شعور دائم بالاحتياج لشخص لا يمكن الوصول إليه. يتهامس الاشتياق في اللحظات غير المتوقعة، فتهتز الأرض بعنف تحت أقدامنا، وتفقد كل ثباتها فجأة. هو وجع صامت لا يُرى، لكنه ينهك القلب بثقل لا يُحتمل.

ويمر اليوم تلو الآخر، ونحاول التأقلم مع الغياب، ولكن هناك لحظات تنهار فيها كل محاولاتنا، لحظة عابرة، صورة قديمة، مكان مشترك، رائحة عطر مألوفة. كل شيء قادر أن يعيدنا فجأة إلى نقطة البداية، إلى القصة الأولى، والدمعة الأولى، والدهشة الأولى من كونهم رحلوا ولن يعودوا. نحاول أن نبدو بخير، نرتب أيامنا، نرتدي ابتساماتنا، نمارس أدوارنا كما يجب، ولكن في دواخلنا شيء منّا بقي هناك، عند اللحظة التي رحلوا فيها، عند المقعد الذي لم يعودوا إليه، عند الاسم الذي ما زلنا نهمس به كلما ضاق بنا الوجع، حتى ضحكاتنا تصبح محمّلة بالغصة.

نضحك بين الناس، نحاول أن نخدع أنفسنا بالقوة، ولكن داخلنا سؤال حزين: كيف نضحك وهم لم يعودوا هنا؟ كيف تستمر الحياة وهم الذين كانوا لنا الحياة؟

ورغم هذا الألم، يمنحنا الفقد دروساً لا تُدرّس، يعلمنا أن الحياة قصيرة وهشة، ألا نؤجل كلمة حب، ولا نخفي اعتذاراً، ولا نتردد في احتضان من نحب. يعلمنا أن نعيش اللحظة بكاملها، بحبها وضحكها ودمعها، لأن الغد ليس مضموناً. الفقد يعلمنا أن الحزن شعور مشروع، ولكن الإقامة الطويلة فيه تؤذي الروح.

لا بأس أن نبكي، أن نشتاق، أن نحزن، ولكن لا بد أن ننهض، نحمل ذكراهم في قلوبنا، ونكمل الطريق وفاءً لهم وللحياة التي أحبوها معنا.

في النهاية، يبقى الفقد جرحاً مفتوحاً في القلب، والاشتياق ناراً لا تخبو، لكنه أيضاً شهادة حب صادق لا يطفئه الزمن ولا يُغَيّبُهُ الغياب مهما طال. فمن فقدناهم لم يغيبوا حقاً، هم يسكنون تفاصيلنا، يرافقون خطواتنا، يبتسمون لنا في أحلامنا، ويستقرون في دعائنا كلما ضاقت بنا الأرض.

ألم الفقد لا يزول... لكنه يتحول إلى حنين خالد، وإلى وفاء أبدي لا يخبو مهما امتد الغياب.

X: t_almutairi

Instagram: t_almutairii

Email: [email protected]