ترتفع اليوم ملايين المآذن والمنائر المزخرفة في كل موطن من مواطن الإسلام حتى واحات الصحاري ومجاهيل الأدغال وقمم الجبال! بل حتى في كبرى العواصم الغربية...
ولا تزال بحمد الله نغمات الأذان تؤذن بالناس على مدار الساعة لإعلان دخول وقت الصلاة، وتغيّر أفلاك السماء ودورانها من طلوع الفجر وشروق الشمس إلى استوائها بكبد السماء ثم زوالها نحو الغروب وغروبها إلى عتمة العشاء. خمس أوقات لخمس صلوات ومنذ فجر الإسلام إلى 1446هجرية، وخلال تلك القرون لم يعرف الإسلام يوماً واحداً لم ترتفع فيه صيحة الأذان (الله أكبر)، وما برحت دعوات الصلاة تستجاب في العالم الإسلامي بدقة، ونظام يُدهش له السياح ويعجبون من هذه الصفوف المتراصة الصامدة إلى ربها بحوائجها المختلفة، ولازم بلالٌ -رضي الله عنه- النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، طوال حياته فكان يوقظه للصلاة في المدينة وفي ساحات المعارك خارجها... ولما تعاظمت قوة الإسلام تعاظمت معها مكانة بلال، فكان هو المؤذن في مشاهد الإسلام العظيمة بصوته الندي في الحديبية وفتح مكة وفتح خيبر وحجة الوداع... وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، اشتد الأمر على بلال، الذي توقف عن الأذان لصعوبة ذلك عليه!
وسكت الصوت العجيب، ودُعى مؤذنون آخرون لدعاء المسلمين إلى الصلاة... فبلال لا يؤذن لإمام بعد نبيه ورسوله... فرحل إلى الشام مرابطاً في سبيل الله، ولما قدِمها عمر بن الخطاب، طلب من بلال رفع الأذان. يقول زيد بن أسلم: (فلما رفع بلال صوته بالأذان ذكّر الناسَ بالنبيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم- فلم أرَ يوماً أكثر باكياً منه) رواه البخاري.
وكان معظم كبار الصحابة قد فارقوا الدنيا، وخاصة الذين أداروا رحى معارك الإسلام الأولى ولم يكن الجيل الجديد على نمط الجيل الذي تقدمه في المعيشة والزهد والرغبة في الآخرة والعبادة، فزالت أو كادت أن تزول من حياة العرب تلك البساطة التي درجت عليها مع نقاء الفطرة وسلامة السريرة.
فهنياً لك يا بلال، بُشرى نبيك لك بالجنة حينما دخلها رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وسمع خَشَف نعليه أمامه؟
فسأله عن ذلك -عن أرجى عمل- فقال: ما أحدثتُ إلا توضأت، وما توضأت إلا صليت ركعتين، قال صلى الله وآله وصحبه وسلم: (فذاك، سمعت دفّ نعليك في الجنة)، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو الخليفة الراشد يقول: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا يعني بلالاً، اللهم ارض عنهم أجمعين. حقاً لقد فقدنا أمثال هؤلاء المؤذنين... كما فقدنا الرجال المصلين... فأصبحنا نسمع الأذان ولا نرى رجالاً مصلين كالرعيل الأول...!
وصدق الشاعر إذ يقول:
سرىٰ صوتُ المؤذن في حِمانا
وقد فَقَدَت مآذننا بلالهْ
وأقصانا يُدنسه يهودٌ
ويعبثُ في مرابعِهِ حُثالهْ
نشدُّ رحالَنا شرقاً وغرباً
وأولىٰ أن نشدّ له رحالهْ
وباتت أمةُ الإسلام حيرىٰ
وبات رعاتها في شر حالة
فلا الصِّدّيق يرعاها بحزمٍ
ولا الفاروقُ يورثُها فعالهْ