كلمة صدق

أن تكون طالباً في أميركا

22 أبريل 2025 10:00 م

تحط الطائرة في مطار جون كينيدي في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ويُثير الدهشة رؤية ناطحات السحاب من خلف زجاج قاعات الانتظار والوصول في المطار لاسيما العمارتين شاهقتي الارتفاع «التوأم» اللتين انهارتا في هجمات تنظيم القاعدة في الحادي عشر من سبتمبر. لقد كان المنظر مدهشاً ولو كانت مشاهدته من بعيد فهذا الطالب قادم من بلاد أعلى ما كان فيها الأبراج الثلاثة، أما العمارات هناك فكانت لا تناطح ولو بقليل ناطحات سحاب مدينة نيويورك الأميركية.

وكان كذلك مثاراً للدهشة للطالب المستجد في ذلك الوقت أن يرى مدى التساهل والمعاملة الودية في المطار، والتفتيش الذكي، فلا يسأل موظف الجمارك عند مرور الحقيبة إلا إن كان لدى الطالب مواد غذائية، خشية أن يكون هناك غذاء تالفاً قد ينقل العدوى. هذه المعاملة والتساهل تثير إعجاب الطالب من الوهلة الأولى مَنْ وطئت قدمه الأرض الأميركية، مقابل ما كان يمر به من جفوة بالمعاملة وتفتيش دقيق في بعض المطارات العربية في ذلك الوقت بالطبع.

أما عندما يدخل الطالب إلى المؤسسة العلمية إلى الجامعة أو معهد اللغة التابع لها، فإنه يجد الترحيب بشكل عام فيها، ويستشعر أنه في مراكز علمية رصينة وعريقة التقاليد بما للكلمة من معنى، فهي ترحّب بالطالب وتشجعه وإن كان طالباً أجنبياً، وتبني الثقة لديه وتفتح آفاقاً جديدة له.

في أيام دراسة اللغة الانكليزية للتأهل لغوياً للدراسة الأكاديمية، يقوم المعلم بإعطاء تمرين إجراء مقابلة، ويختار هذا الطالب الأجنبي موضوع الصراع بين الكونترا والساندينستا في نيكاراغوا آنذاك، يقوم المعهد بمساعدة الطالب لإجراء مقابلة صحافية متواضعة عبر التلفون مع أحد مساعدي أحد أعضاء الكونغرس المهتم في هذا الموضوع، طبعاً شيء لافت أن يقبل مسؤول كبير في الكونغرس بتقبل أسئلة من طالب أجنبي لواجب في معهد اللغة، هكذا كانت أميركا تثير الدهشة؟

في مادة إنشاء القصة الصحافية، يقوم الطالب وبالتعاون مع الجامعة، في زيارة إحدى القواعد الجوية الأميركية ومقابلة أحد الطيارين الأسرى لدى النظام العراقي السابق، وطرح الأسئلة عليه لنشر الموضوع ضمن واجب أكاديمي.

كذلك لدى هذا الطالب الأجنبي الحرية في زيارة ملاجئ المشردين ومقابلتهم، والاستماع إلى آلامهم فمنهم المرأة المطلقة التي أصبحت بالشارع بسبب إفلاس البنك الذي تعمل فيه، وهذان الزوجان اللذان يبكيان بعدما صارا عاجزين وباتا في الشارع، بعد أن طردتهما من البيت زوجة الولد الضابط الكبير في البحرية كما يقول الزوجان.

في فترة الغزو العراقي الغاشم يقوم هذا الطالب بالسهر ليالي في مطبعة صغيرة مجاورة، حتى يقوم بتصميم وتحرير مجلة متواضعة باسم «الصمود» وتوزيعها على الطلبة العرب، في محاولة متواضعة لنصرة الحق الكويتي. كان الطالب يتحرك بحرية ولو في منتصف الليل ويتعاون معه العامل في المطبعة متعاطفاً مع قضيته في نصرة بلده المحتل في ذلك الوقت.

هذا الانفتاح ورحابة الصدر تجعل هذا الطالب بفكره المحافظ والقادم من الشرق العربي البعيد، متفهماً ومنفتحاً أكثر على جانب إيجابي بدأ يدركه في الحضارة الغربية الأميركية، هذا الترحيب والحفاوة والانفتاح، حل اللغز لدى هذا الشاب اليافع عن سبب أن تكون هذه الأرض مركز جذب للعقول والقلوب بالرغم من بُعدها الجغرافي عن العالم بين بحرين محيطين الأطلسي والهادي.

الآن من المستغرب أن تخضع مؤسسة علمية عريقة كجامعة هارفارد الشهيرة إلى الابتزاز المالي بسبب موقفها في حماية طلبتها الذين قاموا بالتعبير عن آرائهم بسلمية ضد جرائم الاحتلال الغاصب في فلسطين وفي غزة بالذات، طلبة من شبان وشابات عرب وأجانب وأميركان انطلقوا بأريحية الشباب للاحتجاج ضد القتل والإبادة من علو شاهق عبر الطائرات المتطورة ضد المدنيين لاسيما منهم الضعاف من النساء والأطفال.

جامعة عريقة تعتبر من أبرز الجامعات في العالم، يتم تهديدها بقطع الدعم عنها لأنها تحمي طلبتها الذين ابدوا آراءهم ضد القتل والإبادة في بلد يكفل لهم دستوره حرية التعبير، والتي تُعتبر ركيزة في بناء هذه الحضارة، كل ذلك التضييق على الرأي بسبب هيجان عنصري متلحف بذريعة معاداة السامية.

مئات من الطلبة الأجانب تم فصلهم، وكثيرون تحت تهديد الفصل والإبعاد، في بلد ازدهرت حضارته باستجلاب العقول الأجنبية، وفي ذلك يقول عالم الفيزياء الأميركي من أصل ياباني، والمحاضر الأكاديمي البروفسور ميشو كاكو «بأن خمسين بالمئة من مرشحي الدكتوراه في أميركا هم من أصول أجنبية، وأن الولايات المتحدة كانت تعتبر أكبر دولة جاذبة للعقول». لكن هذه العقول قامت الآن وكما يقول البروفسور كاكو ونتيجة هذا النفس غير المرحّب بالأجانب، قامت هذه العقول بالعودة إلى مواطنها في الصين والهند وغيرهما من البلدان.

نعم، ويضيف البروفسور قائلاً إن سياسات الإدراة الحالية المعادية للأصول الأجنبية المبدعة بحجة توفير الوظائف للأميركان، هذه السياسة سوف تقضي على المصانع والصناعات التي عمادها الأساسي العقول والثروة البشرية ولو جاءت من أصول أجنبية، والمفارقة أن هذه المصانع والصناعات هي التي توفّر الوظائف للأميركان من الأساس.