عندما تبدأ المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة، لن يكون مُهمّاً شكلها وما إذا كانت مباشرة أم غير مباشرة، بقدر أهمية نتائجها الأولية التي ستُظهر معها أي الخيارين يتقدّم على الآخر: الصفقة أم الحرب.
في الأسابيع الأولى لولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كانت إيران تعلن رفض مبدأ التفاوض تحت التهديد والضغط، وحتى بعد إعلانه عن «تفاوض مباشر» خرَجَ وزير خارجيتها عباس عراقجي ليتحدث عن «غير المباشر»، لكن الواقع أن إيران مستعدة لجميع أشكال التفاوض، وترغب بـ«امتصاص» جموح ترامب الذي بدا في الأشهر الأولى من ولايته الثانية حاسماً في الملفات التي وضعها على الطاولة، وإن أدّت إلى اهتزاز عالمي، على غرار الرسوم الجمركية الأخيرة التي فرضها على نحو ثلاثة أرباع دول العالم.
من السذاجة الاعتقاد بأن التحوّل الاستراتيجي في الموقف الإيراني بدأ حديثاً، وإن كانت أحداث ما بعد «7 أكتوبر» (عدوان غزة الذي بدأ في 7 أكتوبر 2023) سرَّعَت من وتيرة الاستدارة، إذ إن طهران اتخذت قرار تغيير سياساتها تجاه دول الجوار بشكل خاص، منذ مطلع 2023، وتجلّى ذلك في الاتفاق الذي أبرمته مع السعودية في الصين، في 10 مارس من ذلك العام، وأفضى إلى عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
القرار الإيراني حينذاك كان مدفوعاً بعدم إتيان استراتيجية «الوكلاء» أُكُلها، وبحتمية الانتقال إلى التعامل مع دول الجوار من قبل «إيران الدولة» وليس «إيران الثورة».
على هذا الأساس، استكمل الرئيس الجديد مسعود بزكشيان ما بدأه سلفه الراحل إبراهيم رئيسي، على اعتبار أن القرار مُتخّذ من مستويات أعلى منهما، وهو المرشد الأعلى علي خامنئي.
بعد اتفاق بكين (مارس 2023)، جاءت حرب غزة (7 أكتوبر 2023) من خارج «الرزنامة الإيرانية» وتبعها ربطاً سقوط «درة التاج» في قائمة «الوكلاء» (حزب الله في لبنان) ونظام بشار الأسد بوصفه «الحلقة الذهبية»، في ما يُسمى بالمنطقة «محور المقاومة» ويُعرف في إيران بـ «جبهة المقاومة».
تبِعَ ذلك أيضاً اضطرار «الوكلاء» في العراق إلى الانحناء للعاصفة الآتية من البيت الأبيض، فيما يواجه الحوثيون في اليمن غارات يومية، ضمن الاستراتيجية الأميركية الهادفة للقضاء على تهديدهم للملاحة في البحر الأحمر.
كل تلك الأحداث التي كان بعضها مُباغتاً، أدّت إلى ذوبان «الخيط السميك» للنفوذ الإيراني الإقليمي، القائم على 3 ركائز، هي: البرنامج الصاروخي و«الوكلاء» والبرنامج النووي.
منذ انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية، بدأت إيران تطبيق استراتيجية «لا حرب تقليدية» بعد الآن، بمعنى أن قتالها لمدّ نفوذها الإقليمي سيكون غير مباشر، وعبر «وكلاء»، تُسميهم هي «حُلفاء»، وينعتهم خصومها بـ«العملاء».
لسنوات طويلة، وفّر هؤلاء «حائط صدّ» لحماية النظام الإيراني، أَجبَر خصومه على مواجهته في مسارحهم لا على أرضه.
مع عودة «أسوأ الكوابيس» بفوز ترامب بولاية ثانية، وهو الذي مزّق الاتفاق النووي في ولايته الأولى (العام 2017 بعد نحو سنتين من إبرامه)، لم تعد الخيارات كثيرة أمام إيران، وهو ما دفعها إلى إكمال الاستدارة التي بدأت عملياً في بدايات 2023، لتتحول حالياً إلى «انعطافة»، ستقود حتماً إلى تقديم تنازلات «مؤلمة» (بالمعايير الإيرانية).
فما بُني في سورية على مدى عقود انتهى تماماً، وما كان قائماً في لبنان حتى ما قبل سبتمبر 2024 (حرب إسرائيل على لبنان التي أفضت إلى هزيمة «حزب الله») لن يكون قائماً في المستقبل القريب، والوضع في العراق يتأرجح لصالح تقدّم خيار الدولة وسحب السلاح من الميليشيات، فيما تتبقى الورقة اليمنية التي توشك على السقوط أيضاً.
وفق هذا الواقع، تذهب إيران بـ«سياسة النفس الطويل والعقل البارد» إلى التفاوض مع فريق ترامب الذي يضم «رجال الصفقات التجارية»، بحثاً عن مخرج يُبعد عنها شبح الحرب التي بدأت تلوح جدياً في الأفق.
ولأن استراتيجية إيران تقوم منذ بداية التسعينات على عدم الدخول في حرب تقليدية، فإنها ستكون جاهزة مبدئياً للتفاوض على اثنين من الركائز الثلاثة: البرنامج النووي والنفوذ الإقليمي.
صحيح أنها لن توافق على اتفاق على غرار الاتفاق مع ليبيا في 2003 الذي أدى إلى إنهاء برنامجها النووي بالكامل مقابل وعود بعدم المساس بنظامها، لكن المؤشرات تقود إلى استعدادها لتقديم تنازلات أكبر من تلك التي قدّمتها للرئيس الأسبق باراك أوباما في ربيع 2015 لإبرام الاتفاق حينذاك.
كذلك الأمر في النفوذ الإقليمي، مع تقاطع التقارير والمعطيات عن استعدادها للتفاوض على «الورقة الأخيرة» المتمثلة باليمن.
كل تلك التنازلات المُحتملة تهدف بشكل أساسي إلى الحفاظ على النظام، بما يقود إلى تقوية الجبهة الداخلية الهشة، وتحسين الوضع الاقتصادي، مع ضمانات طويلة الأجل.
على ذلك، ترتسم 3 عوامل لحسم مصير المفاوضات ومعها المنطقة:
1 - مدى قبول ترامب بحجم التنازلات الإيرانية.
2 - المدى الأقصى التي يمكن أن تذهب إليه طهران في التنازلات.
3 - رضى إسرائيل عن أي صفقة محتملة.
ما هو أكيد أن الدبلوماسية الإيرانية لديها مدرسة في المراوغة وكسب الوقت وتجميع النقاط والتقدّم والتراجع وفق المعطيات الآنية، لكنها ستواجه تحدياً هائلاً هذه المرة مع وجود رجل في البيت الأبيض لا يُعطي مهلاً كثيرة، ويقال إن الفترة التي منحها للخيار التفاوضي تنتهي الصيف المقبل.